يحضر مشهد من احتلال العراق في الذهن ما إن تنتهي من جولتك على النازحات السوريات للتحقق من موضوع تفاقم التحرش بهن هنا في عكار، في بيئة حاضنة أسعفتهم في البداية وانقلبت عليهم مع استمرار الأزمة لتضارب المصالح.. المشهد الذي أعنيه هو مشهد النهب الذي أعقب سقوط بغداد: الرعاع ينهبون، يسلبون ويستبيحون كل شيء. تتخيل الحروب البدائية حين كان المنتصرون يهجمون على الخاسرين، فيبيحون البلاد التي يفتحونها لثلاثة أيام لجنودهم: يسبون النساء ويسوقون الأطفال ويسخّرون الرجال عبيداً … في الأمر مبالغة؟ فلنرَ معاً …
«ما حدا بيحكي، بصراحة، الموضوع كتير حساس. بس يعني بيتسّرب حكي. ما تنسي نحنا قاعدين بالقرى، يعني ما فيها شي بيتخبى! كيف بدي قلك؟ إنو مثلاً قاعدين تلات أربع نسوان ببيت مستأجرينو … بدّو ينام صاحب البيت (يعدّ على أصابعه) مع الأم والبنت والأخت والست!».. يقول علي طه، عضو بلدية «تل حياة» في عكار، هذه الكلمات باستهجان ظاهر، حين سألناه عن حقيقة ما تناهى الى مسامعنا عن تفاقم غير مسبوق للتحرش الجنسي بالنازحات السوريات هنا في عكار، في بيئة محافظة جداً، استقطبت أغلبية النازحين كونها «حاضنة» لهم بالمعنى المذهبي والسياسي، والمعنيان وجهان لعملة واحدة في إمبراطورية الطوائف اللبنانية. لكن، على ما يبدو، فإن هذه البيئة الحاضنة تمادت في «احتضانها» للنازحات السوريات، حتى فاحت رائحة الفضائح، ولعل فضيحة «وقف طيبة» التي خرجت إلى الإعلام لم تكن إلا رأس جبل الجليد!
الموضوع حساس؟ صحيح ولكن ما مدى حساسية الناس تجاه ما يحصل للنازحات السوريات؟ نساء سوريا، «مال» شامها وحلبها وحماها ورقتها وطرطوسها وإدلبها؟ مال الريف ومناطقه الفقيرة، النازحات المتروكات لمصيرهن، في ظل وضع الرجال الصعب، غير الشرعي أحياناً كثيرة، يدبّرن أمورهن بما تيسر ويعانين من صيت «سهولة السوريات»، الذي انتشر كسلاح قاتل للرحمة، بين متولّ شؤون مساعدتهن من جهة، وعائلاتهن من جهة أخرى، وبيئة كانت حاضنة فانقلبت عليهن من باب تنافس الفقراء على قليل الرزق!.
كأن النازحين والنازحات «كرم على درب»، يمد من يشاء يده ليقطف ما يشاء، ويعيث فيه وبخيراته فساداً.
الكل مُستَغَل هنا. النازحون والنازحات نوع من غنائم حرب، يهجم الرعاع ليتناتشوها. الكل مُستَغِل أيضاً: المهرّب عبر الحدود الذي يتقاضى مئة ألف ليرة عن كل «رأس»، ويجبر هؤلاء على العمل سنة لإيفائه حقه، موزع المساعدات الذي يحجز الهويات، مؤجر البيت، مؤجر أرض الخيمة في المخيم، وبالطبع «شاويش المخيم»، الموكل بإدارة «مخيمه» كساحة نخاسة وسخرة. وحتى داخل العائلة نفسها: القوي يبيع الضعيف، أو يحوله، كما في حال البنات والنسوة والأطفال، الى سلعة تتوخى في أقصى أحلامها، الستر. أو يتوخى منها المقايضة بإيجار بيت أو دين أو حصة إعاشة أو حتى تشريج الهاتف الخلوي.
وفق كل ذلك، ينتشر صيت مؤذٍ تتناقله ألسنة الناس هنا عن «السوري» بشكل عام و«السورية» بشكل خاص، «خرابة البيوت» التي تباع وتشترى، «خطافة الرجالة» … الزوجة «الرخيصة» بمعنى الكلفة، والعبدة في غاب مجتمعات ذكورية حتى في أخلاق نسائها، المتضررات الأولى من هذه الذكورية البدائية.
«السوري مدلل، يقول علي طه، كل شي مأمنلو. بس إذا بتروحي على أي مخيم وبتسألي أي واحد عن المساعدات بيقلك ما وصلو شي!» ولمَ برأيه؟ يجيب بثقة وهو جالس خلف مكتبه في قاعة البلدية، حيث استقبلنا « صار عندو هواية بالشحادة! شو ما أخذ مكسب. بيعتبر إنو اللبناني عايش ع ضهرو … يعني صار موزع شي 6 ملايين فرشة، ما حدا بيقلك إنو عندو فرشة»! ينظر الى ملامح وجوهنا المستغربة، ثم يقول «هدول الناس هيك! طبعاً ما كلهن … بس هيك: قبل وبعد النزوح. بتقلك (النازحة) أعطيني كرتونة وخود اللي بدّك اياه»!.
هكذا إذا … وماذا عن التحرش بالسيدات السوريات؟ يجيب «عم تحكي عن (فضيحة) «وقف طيبة» ما هيك؟ قبل ما تقولي شي: كلو مزبوط». وماذا عن البقية؟ يقول «طيبة (وقف طيبة الذي ترأسه سعودي كان يتزوج كل فترة بنازحة، يساعده اللبناني المتمشيخ خ. ي. واللبناني السمسار ر. م.) كأنو لا حسيب ولا رقيب … الباقيين أوادم لأنو في رقابة عليهم». ثم يعلق «اللي شفتوهم طلعوا على التلفزيون وحكوا عن وقف طيبة؟ هم أسوأ ممن تحدثوا عنهم. هنّي «ولاد حدود». بتعرفي شو يعني ولاد حدود؟». ثم يقول «الجمعيات الإسلامية خف نشاطها اليوم كتير … حوالى 70 بالمية خاصة القطرية، لأنو ما عاد في تمويل. لما خسروا بالسياسة وقّفوا التمويل».
ثم يخبرنا بهذه الخبرية التي لم أفهم سبب إيرادها «كان عنا هون شب لوطي … سوري يعني. إجا مرة يشتكي إنو في شباب تحرشوا فيه! فتشنا، طلع إنو هوّي كان مجمّع كم واحد حواليه، وعم يحاولوا يبتزّوه، قاموا شلّحوه اوراقو …». أنظر الى زميلي بحيرة، فأجده لا يزال شاخصاً الى الرجل كأنما ينتظر تكملة ما، لكن الرجل سكت.
ما إن تتحدث عن التحرش أمام الشيخ لقمان الخضر (القرقف)، مسؤول ائتلاف الجمعيات الإسلامية الذي التقيناه في مكتبه عند مفرق بلدة برقايل، حتى يذكر مشكلة الإيواء: «عنا مشكلة في تأمين بدل إيجار النازحين. يعني الإيجارات تتراوح بين 200 دولار للمخزن (300 ألف ليرة لبنانية) و450 دولاراً للشقة السكنية (675 ألف ليرة لبنانية). يعني أنا موظف وهالشي عبء عليّ، كيف النازحات؟ وما معهن رجال؟ نطالب أصحاب البيوت بأن يرحموا قليلاً، ولكنهم أحياناً كثيرة لا يرحمون، وأحياناً يحصل ابتزاز للنساء بخدمات جنسية. يعني تحدثنا مع الدولة أولاً، وقلنا لهم منذ البداية إننا نذهب باتجاه صعب وطويل ولا بد من خطة لضبط المسألة: مراكز استقبال عند الحدود، تسجيل، توجيه. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، لذا تجدين النازح ضائعاً ويصبح استغلاله سهلاً». حسناً، وماذا عن موضوع التحرش؟ يقول الشيخ «برأيي، هناك مبالغة. ومع ذلك الموضوع حساس وغير مقبول، فكرامة النازحة من كرامتنا. ولكن برأيي هناك عدة نقاط يعني على النازحين أن لا يرسلوا نساءهم لجلب المساعدات (!) هذا مطلوب منهم أخلاقياً ودينياً. لكن المشكلة أن هناك الكثير من النازحات ليس لديهن رجال، أو لأن الرجل لا يزال في سوريا أو في العمل، أو مثل أرامل الشهداء مثلاً».
يحاول الشيخ أن يحجّم المشكلة، لكنه يعترف بالنهاية «أنا مش مطّلع كتير … لكن وصلتني بعض الحوادث بمعنى أن صاحب المنزل لا يؤجّر إلا إذا أعطته جسمها. المشكلة أكتر شي مع أصحاب البيوت، كمان هناك الشباب على الطرقات». حسناً، أليس من مهماتهم معالجة مشكلة المؤجرين على الأقل طالما أنهم في نطاق بلدياتهم؟ يجيب «تحدثنا مع البعض، ومنهم من تجاوب، ولكن … على النازحات أيضاً أن لا يسكتن ويبلغن عما يتعرضن له، ونحن معهن للآخر».. لكن، ما لا يعرفه الشيخ، ربما، أن بعض عناصر الدرك أنفسهم يستغلون النازحات، كما حصل في قرية مشحا العكارية التي هجّت منها نازحة لأن أحد الشباب، وهو يعمل في سلك الدرك، كان يضغط عليها للزواج به، وهي مخطوبة لشخص آخر. وكما حصل في برجا في إقليم الخروب، التي ألقي القبض فيها على دركي «يؤجر» النازحات اللواتي يحتجزهن لآخرين، ولكنه عوقب وعناصر آخرين متورطين بالقضية.
في حلبا، كان لنا موعد معها. «سمارة» اسمها المستعار الذي اخترناه معاً، و14 عمرها الذي بلغته بشق النفس على ما يبدو. جلسنا على درج في الشمس أمام مقر إحدى الجمعيات، ننظر الى ملعب اجتمع فيه الأطفال النازحون في «نشاط» يأكلون خلاله منقوشة ويشربون قنينة عصير.
تجلس سمارة وقد تحجّبت منذ زواجها وطلاقها بعد 3 أسابيع! لماذا تزوّجت يا سمارة؟ اسألها. فتخبرني عن وضع عائلتها: أب معوّق وأم تشكو داء المفاصل، وأخوات صغيرات كانت أكبرهن حين تزوجت في عمر 13 سنة. «نحنا مستأجرين مخزن، كنت أعمل عند سيدة فتعطيني 200 ألف ليرة مقابل عملي معها في بيتها وفي محلها ومع أولادها. وأختايَ عائشة وشام كانتا تعملان أيضاً (11 سنة و12 سنة) عند عائلات أخرى. مرة كسرت لها دبدوباً صغيراً في الحمام فضربتني وتركت العمل عندها. تراكم علينا الإيجار. دفعنا قسماً وبقي مبلغ 50 ألف ليرة من الشهر الرابع. لم نعرف كيف ندبّر المبلغ … صار صاحب المخزن يهددنا، وصادف أنه كان هناك شاب قال لعمتي إنه يريد بنت حلال فدلّته عليّ. لكن أبي رفضه، وقال «بناتي زغار».
لكنني كنت أعرف وضعنا، وقلت في نفسي لماذا لا أتزوّجه فأنستر ويصبح لبيتنا رجل يساعد والدي؟ قبلت به، فزوّجني والدي». تسكت سمارة التي قالوا لنا إنها كانت قبل زواجها فتاة مرحة تنشر البهجة حولها، وتحولت بعد طلاقها الى فتاة مكتئبة ومنزوية. «ماذا حصل؟» أسألها بهدوء، فتجيب وهي تفتل بيدها طرف منديلها ناظرة الى الأرض «يعني كيف بدي قلك؟ بتعرفي أنا طفلة، وأول ليلة يعني لازم يسايرني شوي، لكن … كان كل شي بالقوة. كان جايبلي 6 خواتم وحلق ذهب وساعة، وكل شوي: البسي الساعة، البسي الخواتم، ما عم تفهمي يا حمارة يا حيوانة؟ ويضربني».
بعد ذلك؟ «هربت مرتين فكان يردّني، لكن مرة لبست شحاطتي وهربت ولم أعد». ثم تقول «هوّي ابن حرام، أهلو بيعرفوه ابن حرام، أصلاً لما طلبني ما جاب أهلو لأنهم رافضين يخطبولو». حسناً، وماذا عن أخواتها؟ تقول «أختي عائشة عمرها 11 سنة كانت تذهب مع أمي لتنظيف بيت، صاحبه عجوز في الثمانين من عمره. كانت تجلس تتفرج على الكرتون بالتلفزيون، وإذا بالعجوز يأتي من خلفها من دون أن تحس ويدخل كفيه ويمسك بصدرها ويقرصها، فأخذت تصرخ. لم تسمعها أمي، لكنها أخبرتها في ما بعد، فلم تعد تذهب إلى العمل … كيف بدّنا ندبر الإيجار بهيك حالة؟».
أما «فتون» (15 عاماً) فتخبرنا أن بعض الشبان حاولوا أن يجعلوها تصعد غصباً عنها في سيارتهم المفيّمة، لكنها أخذت تصرخ حتى تركوها وهربوا. تتحدث النازحات عن كثير من فنون التحرش بهن: من القرص لدى وقوفهن للحصول على المساعدات، الى مد اليد على أجزاء حميمة من أجسادهن من قبل رب العمل أو «شاويش» المخيم أو شباب المنطقة. هكذا تروي لنا «رويدة» كيف أنها دخلت الى مستودع اعتاد توزيع المساعدات من باب خلفي بالصدفة، لتجد الموزع وقد احتضن صبية نازحة.
«ظروف النازحات مأسوية» تقول سعدية غنيم، المديرة التنفيذية للرابطة النسائية الخيرية في حلبا. وتضيف السيدة المصرية الأصل (من زقازيق عبد الحليم حافظ)، والتي كانت تلف نفسها بمعطف صوفي سميك «أولاً السكن: المؤجرون بساومونها على جسمها، يعني يا تدفعي يا كذا. طبعاً الكثيرات لا يستطعن التصريح بهذا خوفاً من الفضيحة أولاً ومن غضب الرجل الزوج أو الأب الذي يكون في هذه الأثناء في عمله، ولذلك لا يستطيع مرافقة زوجته … فتضطر إلى السكوت».
ثم تقول «بعض أصحاب الملك يؤجرون الشقة ويحتفظون لأنفسهم بغرفة، ثم يدخل البيت متى ما أراد بهذه الحجة، وبدون سابق إنذار». نسألها إن كان ذلك بسبب بند في عقود الإيجار المتخلفة التي تسمح لصاحب المنزل بدخول ملكه متى أراد، فتقول «لا عقد ولا من يحزنون. النازح بيكون ميت على بيت فبيقبل بأي شي. هناك نساء اشتكين لي، هذه حالة موجودة بكثرة، هناك سيدة كان صاحب البيت يتحين فرصة ذهاب زوجها من المنزل ليدخل عليها … فما كان منها في إحدى المرات إلا أن بدأت تصرخ، ثم قررت العودة الى سوريا وقالت لي: أموت بشرفي أحسن».
كما تحدثنا السيدة غنيم عن محاولات استدراج نازحات الى شبكات الدعارة بحجة البحث عن … عروس! تخبرنا عن سوريات «كتير مرتبات يعني واحدة منهن تسكن في شارع المئتين بطرابلس (تدليلاً على الراحة المادية)، جاءتنا مرة تريد أن «تتفرج» على البنات بحجة البحث عن عروس لابنها»، لكن سيدة من جمعية أخرى أخبرتنا أنها زارتها أيضاً فسألتها غنيم: «شو ابنك صار مجوز شي 12 واحدة؟» ومع ذلك، وجدتها يوماً قد تسللت الى الملعب الذي كانت فيه الفتيات يسترحن من درس الخياطة، وكانت تقف الى جانبهن وهي تأخذ أرقام هواتفهن (الهاتف الخلوي أساسي للنازحين)، فطردتها وأخذت هويتها وبلّغت الدرك.
لكن ما تسكت عنه النساء السوريات فقد بحْنَ به لناشطات اجتماعيات عملن على أوضاع النازحات السوريات في عكار «كل مردود العمل يذهب لتأمين إيجار المنزل، وأحياناً نبيع حرامات وفرش وبطاقات الصرف، لنستطيع تغطية إيجار المنزل ونبيع بطاقة الصرف التي قيمتها 40 ألف ليرة بـ 30 ألف ليرة». هذا التصرف تصبح ترجمته عند اللبنانيين هي: «ما في سوري بيقلك إنو وصلتلو مساعدات. ولو وزعتي مليون حصة بتروحي بتسأليهم بيقولولك: ما وصلنا شي. لأنهم ببيعوهم وبيسترزقوا منهم».
وماذا عن المؤجرين؟ تقول إحداهن «بخصوص أي شغلة بسيطة يدخل صاحب المنزل علينا دون رحمة، وبعد 25 الشهر يأتي أصحاب المنازل إلينا بالتهديد والوعيد يريدون إيجار منازلهم، صاحب المنزل يشترط علينا عدم السماح لأحد يأتي لزيارتنا، وإذا جاءت عائلة من أقربائنا لتسكن معنا يطلب زيادة في الإيجار.
وماذا عن الجو داخل المنزل، أو الخيمة؟ تقول إحداهن «يا إختي الوضع سيئ جداً. هناك توتر بين كل أفراد العائلة، وخاصة مع الشبان الصغار … لكن، نحن «فشة خلق» الكل: الرجال والأولاد والعيلة».. وماذا عن الخصوصية؟ تضحك السيدة الصغيرة، وهي تقول «خصوصية؟ وين؟ بالبيت اللي قاعدين الكل فوق الكل؟ ولا بالخيمة؟ نسينا النظافة، نسينا أنوثتنا … ما بتذكّر إني ست إلا لما بيتحرشوا فينا».
النهاية