SHIA-NEWS.COM شیعة نیوز:
من أبرز العقبات التی تواجه النمو النفسی و الانفعالی للأفراد: الاسقاطات السلبیة للأنماط السلوکیة التقلیدیة للأسرة و البیئة و المجتمع،فمسیرة التربیة النفسیة للأفراد علی وجه الخصوص تخطو بشکل ارتجالی عفوی،یشوبها تشوش و اضطراب للرؤیة،فی ظل غیاب برامج واضحة مقننة لأبسط قواعد الأسس النفسیة،و مما یزید الأمر سوءا غفلة الآباء و الأمهات و المسؤولین التربویین عن معرفة حاجات أبنائهم النفسیة و إشباعها،فضلا عن جهلهم بدورهم فی الحفاظ علی صحة و تنمیة نفسیاتهم.
ینصب اهتمام أفراد المجتمع فی مجال التنشئة الاجتماعیة للجیل الجدید علی إشباع الحاجات و المیول المادیة و الجسدیة،بصفتها دوافع ظاهرة سهلة التعرف علیها و یدرکها الجمیع دون عناء یذکر،فحاجة الإنسان للأکل و الشرب و اللبس و النوم و غیرها من الحاجات الجسدیة فی متناول اهتمام الجمیع،فی حین تکون حاجات الإنسان النفسیة بمنأی عن ذلک کله،و لا تشکل رقما ذا أهمیة،رغم دورها المؤثر فی تکامل و صقل شخصیة الفرد لتؤهله بعیدا عن العقد و المشاکل النفسیة و الاضطرابات السلوکیة.
فالمجتمع یبدی تفاعلا مع فرد مریض جسدیا اکثر من تفاعله مع آخر یشعر بالوحدة و العجز فی تکوین الصداقات و العلاقات،أو یشکو من العجز و عدم القدرة علی الدراسة،أو من آخر یعجز عن تکوین هدف مهنی لمستقبل حیاته،أو فرد یعانی من عدم قدرته علی التکیف الاجتماعی أو الأسری أو المهنی.
حضارة القلق
سمة المجتمع المعاصر انه ملئ بالضغوطات و الصراعات و الأزمات و المطامح و تعقیدات المدنیة التی تتزاید مشاکلها یوما بعد آخر إزاء عالم یعج بالمتغیرات المتسارعة فی جوانب الحیاة المختلفة، و هذا بدوره ینعکس علی حیاة الأفراد و قدرتهم علی التعاطی مع المستجدات و متطلبات الحیاة العصریة الجدیدة.
إن التغیرات الأسریة التی طرأت علی المجتمع الیوم و تزاید مشاکلها،و اشتداد الصراع بین الأجیال،و تداخل الثقافات المختلفة و ما یرافقه من تغیر فی الاتجاهات و القیم و مظاهر للسلوک و أسالیب الحیاة،ألقت بظلال من الشک و الارتیاب و الحیرة و التشوش الذهنی و عدم الثقة فی الإنسان المعاصر،فلیس القلق و حالات الوسواس و الإرهاق النفسی،الذی هو مرض العصر،و المزاج المتقلب و الشعور بالإحباط والاکتئاب،إلا نتیجة لأمراض الحضارة و ما تحمله من معادلات معقدة آخذة فی التصاعد، بین ما ینشده الإنسان من توازن داخلی، و الضغوطات الخارجیة التی تفرزها المدنیة الحدیثة،فی ظل ضعف الإیمان و غیاب الوعی.
علی هذا النحو،فإن الإنسان بحاجة الی أن یمتلک میکانزمات معادلة العالم المتغیر لکی یستطیع إن یقهر العقبات و المصاعب التی تعوق مسیرة عطائه فی سبیل حیاة عامرة بعمل الخیر و العطاء،وفی مطلعها الشعور الإیجابی بقدراته و إمکانیاته علی التکیف مع المحیط من حوله، فالوعی بالصحة النفسیة و الحفاظ علیها من رکائز التعاطی و التعامل مع الأزمات و المشاکل التی هی صیرورة هذه الحیاة.
الصحة النفسیة و معاییرها
تلاحظ الصحة النفسیة من خلال قدرة الفرد علی التوافق مع نفسه و مع مجتمعه الذی یعیش فیه،فبذلک یکون قادرا علی تحقیق ذاته و استغلال قدراته و إمکانیاته إلی أقصی حد ممکن،و یکون قادرا علی مواجهة مطالب الحیاة، حیث تتلخص معاییر الشخصیة السویة من وجهة نظر علم النفس فی الآتی:
1-المحور العبادی
یشکل الإیمان بالله سبحانه و تعالی و الالتزام بالقیم السماویة العمود الفقری فی بناء الجانب النفسی للفرد،إذ إن عدم الإیمان بالله عز و جل یترتب علیه مختلف أنماط الاضطراب السلوکی و النفسی،کما إن اقتراف الخطایا و الذنوب یساهم فی بناء الشخصیة غیر السویة لما یشوبها من هلع و جزع و تشاؤم.قال الله تعالی
(ألا بذکر الله تطمئن القلوب).
2-تقبل الذات
فالشخصیة السویة تنسج نظرة واقعیة لإمکاناتها قوة او ضعفا،بحیث تتقبل ذاتها بهما هو واقعی فیها،فلا تبالغ فی إمکاناتها و لا تقلل منها أیضا،فإذا بالغت فی ذلک وقعت فریسة لتورم الذات،و داخلتها أوهام العظمة و الکبریاء و الزهو،و إذا قللت من تقدیرها للذات،وقعت فریسة لمشاعر الضعة و الهوان.
3-تقبل الواقع
فالشخصیة السویة هی التی تتعامل مع الواقع الذی تواجهه علی حقیقته،فلا تتجاوزه بما هو خارج عن الحدود،و لا تتهرب منه.فإذا تجاوزت إمکانات الواقع أصبحت فریسة لتعامل و همی أو مثالی لا حقیقة له،و إذا تهربت منه انسحبت إلی داخل ذاتها و تعطلت کل إمکاناتها التی ینبغی إن تستثمر فی التعامل مع الموقف الذی تواجهه.وفی الحالتین یصبح کل من تجاوز الواقع و الهروب منه سلوکا شاذا لا یتفق مع معاییر الصحة النفسیة.
4-تقبل الآخرین
و هذا المعیار یعنی إن الشخصیة السویة لدیها استعداد لان تخرج من أسوار ذاتها و تتجه إلی التفاعل مع الذوات الأخری،أی أنها تتنازل عن ذاتها و تؤجل إشباع حاجاتها،و تعنی بإشباع الآخری،بمعنی أن تحب و أن تحب أیضا.
هذه المهارت الاجتماعیة و القدرات الفردیة المختلفة،ما هی فی واقعها إلا حصیلة للتفاعل بین الفرد و بیئته،تشارک التنشئة الأسریة، و العوامل الثقافیة،و الظروف الاجتماعیة بدور بارز فی تحدید معالمها و منحی اتجاهها.
فالأسرة التی تولی اهتماما للجوانب النفسیة لأفرادها تکون قد سعت فی تکوین شخصیة فاعلة متزنة قادرة التعامل مع المتغیرات و الظروف المختلفة،و من هنا نری الإسلام أولی جل عنایته للأسرة و حرص علی استقرارها،لان ذلک یعنی الحفاظ علی استقرار الأجیال و حمایتهم من الاضطراب السلوکی و الضیاع و الانحراف.
فالطفل هو مرآة الأسرة،یتقولب وفق نظام العلاقات السائدة فیها بین الوالدین أنفسهما، و بینهما و بین أبناء المنزل الواحد،حیث تتشکل صورة الطفل عن ذاته حسبما یترکه الأبوان من بصمات علی شخصیته.فقد یری نفسه محبوبا أو منبوذا أو قد یشعر بالثقة فی إمکانیاته أو بالنقص و الهوان.لذلک کانت الأسرة العامل الذی یستحوذ النصیب الأکبر فی إکساب الأفراد العادات و الاتجاهات السلوکیة و الاستعدادات الانفعالیة، مما له الأثر علی النمو النفسی و الانفعالی للأفراد فی باکورة حیاتهم.و من هنا رفع رواد التربیة الحدیثة مبدأ تربیة الآباء قبل الأبناء،الأمر الذی أکده الإمام الصادق(علیه السلام)منذ زمن بعید: (یحفظ الأبناء بصلاح آبائهم).
فالأطفال قد یجنی علیهم من قبل آبائهم و مربیهم،لما یکسبونهم بوعی منهم أو غیر وعی، من مشاعر النقص و عدم الثقة و الاعتمادیة و العصبیة،فتکون حیاة الطفل مسرحا للصراعات و التوترات النفسیة.فکما إن الآباء یورثون أبناءهم لون بشرتهم،فانهم یکسبونهم سمات شخصیاتهم و طبیعة نفسیاتهم أیضا.قال رسول الله صلی الله علیه و آله و صحبه و سلم:(لعن الله و الدین حملا ولدهما علی عقوقهما)و(رحم الله و الدین أعانا ولدهما علی برهما).
نظرة المجتمع للصحة النفسیة
مازال الغموض و القصور و عدم الجدیة سائدة إلی الان فی نظرة المجتمع للصحة النفسیة و علم النفس بشکل عام،فعدم قدرة الأفراد فی الإفصاح عن حاجاتهم النفسیة،مع صعوبة التعرف علهیا أحیانا،یدفع المجتمع إلی الترکیز علی إشباع الجوانب الجسدیة و المادیة للأفراد اکثر من إشباعه لحاجاتهم النفسیة.فالحب و التقدیر، و الصداقة،و التعبیر عن النفس،و معرفة الذات، و الاحترام،و القبول،و الکرامة،و الاستقلال، و غیرها،تأتی فی المرتبة الثانیة فی سلم أولویات المجتمع،هذا إذا لم تکن فی عالم النسیان.
و یرجع ذلک إلی قلة وعی المجتمع بتأثیرات الحاجة النفسیة علی الصعید الحیاتی للأفراد،فلا یهم فی نظر الکثیرین إلی حد بعید ما یعانیه أبناؤهم داخلیا،و ما یقاسونه من عدم التوافق الاجتماعی،ماداموا فی صحة جسدیة جیدة،و ذلک لان قدرة المجتمع للتعامل مع المرض الجسدی اسهل بکثیر من الأعراض و المشکلات النفسیة، فالأول لا یحتاج إلا إلی الذهبا إلی العیادة،بینما یحتاج الاخر إلی مهارات متمیزة،و ثقافة خاصة و خبرات تحتاج إلی البحث و المطالعة و الاستشارة، الأمر الذی تری فیی کثیر من الأسر:الإحراج و المشقة فی إشراک غریب فی حل مشکلة ابنهم النفسیة.
إضافة إلی هذا،فإن المجتمع لا یفرق بین الأمراض النفسیة،و الأمراض العصبیة حیث یخلط کثیر من الناس بین النوعین،فالأمراض العصبیة هی التی ترجع إلی أسباب عضویة أو جسمیة،إما الأمراض النفسیة فإنها ترجع إلی أسباب نفسیة بحتة،أی أنها أمراض وظیفیة، و تعرف هذه الأمراض باسم الأمراض العصبیة. و من هذه الأمراض القلق و الهستیریا،و من أعراض هذه الأمراض الشعور بالقلق و التوتر و الاکتئاب و الشکوی من آلام جسمیة،لا یوجد
أی سبب حقیقی لها،و الخوف الزائد علی الصحة و الشعور بالهبوط و الخوف،و غیر ذلک من الأعراض.
قد یلاحظ أن کل واحد منا،یشعر بعرض أو اکثر من هذه الأعراض،و لکن لیس معنی ذلک إننا کلنا مرضی،و لکن هذه الأعراض لا تعتبر مرضیة إلا إذا کانت حادة و مزمنة،تقعد الفرد عن القیام بمتطلبات الحیاة العادیة.
وقد یکون المجتمع هو أولی من غیره للحصول إلی استشارة أو خبرة أو ثقافة نفسیة،ففی مجتمعات العالم الثالث تکون فیه أهمیة الفرد و آرائه و فرص التعبیر عن ذاته،أقل بروزا و احتراما بالقیاس مع غیره من مجتمعات العالم المتقدم، و فاقد الشیء لا یعطیه.
لماذا الصحة النفسیة؟
لا تقتصر انعکاسات الحصة النفسیة علی الفرد،بشعوره بالراحة،و ضبط النفس،و تحمل المسؤولیة و فی قدرته علی مواجهة الأزمات و التحدیات و التعامل مع المتغیرات،و إقامة العلاقات الاجتماعیة،لیس هذا فحسب..بل تتعدی ذلک إلی المجتمع نفسه لکون الفرد لبنة من لبناته و ما یصب أحدهما یتأثر به الآخر.
فالمجتمع الذی یسوده الحقد و الضغینة، و تسیطر علی کیانه العداوة و البغضاء،هو مجتمع مریض نفسیا،تتحکم به الخلافات و الانشقاقات،مما یصیب وحدته و تماسکه بالتصدع و الانهیار،فالأفراد الذین لا تتسع صدورهم للرأی الآخر،و یضیقون بمن یخالفهم الرأی..أفراد متخلفون نفسیا،و یساهمون من حیث لا یعلمون فی زرع بذور الشقاق و الشحناء بین أفراد المجتمع الواحد،و یصیبون نظام التواصل الاجتماعی بالشلل،مما یعوق قدرات الأفراد فی بناء شخصیات سویة تستطیع إن تخرج من أغلال الحسد و البغض و الهوی و التبعیة،إلی فردوس الغبطة و الحب و حریة التفکیر و الاستقلال بالرأی.
فی سبیل تحقیق الصحة النفسیة
یتحقق الرعی،بإشباع الحاجات النفسیة للأفراد فی مختلف الأعمار،فلکل شریحة عمریة حاجاتها النفسیة الخاصة بها،بدء من مرحلة الطفولة و سن المدرسة و مرحلة المراهقة و سن الشباب حتی مرحلة الشیخوخة،مع وضع الحاجات الفسیولوجیة و المادیة و النفسیة علی قدم المساواة،لکونها حاجات ضروریة لبناء الشخصیة السویة.
و بما إن الطفل یتقمص سلوک من حوله،تأتی القدوة الحسنة فی الأقوال و الأفعال کبرنامج یساهم فی إحساس الطفل بالحب و الأمن و القبول و الطمأنینة التی هی بمثابة أکسجین النمو النفسی و الانفعالی للطفل،بعیدا عن أسالیب التجریح و السخریة و التهمیش و التحقیر،خاصة أمام الأقران و الآخرین،الأمر الذی یعزز قدرة أفراد المجتمع فی تکوین علاقات طیبة خالیة من مشاعر النقص أو الدونیة أو التعالی أو الحقد أو السیطرة أو العدوان أو السلبیة،مما یسمح بإقامة علاقات متوازنة بین الأفراد و محیطهم خالیة من الإرهاق و الصراع النفسی من اجل السعادة و راحة البال.
المصادر
1-دراسات فی علم النفس الاسلامی د.محمود البستانی.
2-الطفل بین الوراثة و التربیة محمد تقی الفلسفی.
3-علم النفس المعاصر فی ضوء الاسلام د.محمد محمود محمد.
4-کیف تسعد ابناءک،محمد الکاتب.
5-علم النفس العام،د.عبد الرحمن العیسوی.
6-الخوف الاجتماعی،د.حسان المالح.
7-ولدک هذا الکائن المجهول،ترجمة د.امین رویحة.
8-مشاکل الاطفال النفسیة،د.ملاک جرجس.
9-مشکلات طلبة المرحلة الاعدادیة و حاجاتهم الارشادیة
بقلم : السادة، جعفر علی مکی
المصدر: مدونة شيبان الثقافية