SHIA-NEWS.COM شیعه نیوز:
شیعة نیوز: تمثل محافظة القطيف التي تقع على ضفاف الساحل الشرقي للملكة أنموذجاً فريداً للتسامح والتعايش السلمي بين أبناء الوطن وأطيافه سنة وشيعة، حيث تتشكل محافظة القطيف من عدة مدن وبلدات ومناطق وقرى، وهي ذات حضارة تمتد إلى أكثر من خمسة آلاف عام، وتعدّ من أبرز المحافظات تنوعاً وتماسكاً من حيث النسيج السكاني من الطائفتين الكريمتين السنية والشيعية، فقضية التعايش ووحدة الوطن وعلاقة هذا الترابط بين أبنائه رغم الاختلاف العقائدي هو نابع من القيم الإنسانية والصدق والأخوة واحترام الآخر.
الزائر لمحافظة القطيف سيجد مساجد وجوامع أهل السنة تقع وسط القطيف وفي أحياء مختلفة، وتجاور مساجد الشيعة مساجد السنة في منظر يعبّر عن التسامح، بعيداً جداً عن أجواء الشحن والتشدد والتوتر الطائفي الذي يريد أن يفتعله بعض ضعاف النفوس، والمساجد في مدينة القطيف وسيهات على سبيل المثال تخدم الموظفين القادمين من خارج المحافظة والمقيمين، والأهالي اعتادوا على هذا النوع من التسامح.
تنوع قبلي ومذهبي
ويؤكد عضو المجلس البلدي بالقطيف جعفر الشايب، بأن أبناء مجتمع القطيف عاشوا ولفترات زمنية طويلة يسودهم الانسجام والتآلف والتعايش بين مختلف المكونات الاجتماعية دون أن ينغص حياتهم أي تفكك أو تنافر، وقال: مجتمع القطيف ومنذ القدم تميز بتنوع مكوناته قبلياً ومذهبياً، ولكن ذلك لم يؤثر أبداً في مدى الانسجام بين أفراده، فكان القاضي الشيعي يحكم بين المتخاصمين من مختلف المذاهب والكل يرضى بحكمه، وكان الناس يرهنون أموالهم وأماناتهم عند المختلفين عنهم. وبطبيعة انفتاح المجتمع على مختلف الثقافات والحضارات واحتكاكهم المتواصل مع المجتمعات الأخرى بسبب الموقع والتبادل التجاري فقد انعكس ذلك على تقبلهم لبعضهم البعض على الرغم من الاختلافات بينهم.
مضيفاً: يستذكر أكثرنا قصص الآباء والأجداد وتواصلهم وعلاقاتهم الحميمية مع مختلف أبناء القبائل التي تقطن القطيف وما حولها والحميمية التي كانت بينهم، والتعامل الإيجابي الذي لم تعيقه الاختلافات المذهبية أو تقف حجر عثرة دونه. كما نستذكر أيام الصبا وذكريات العلاقات الجميلة التي كانت تربطنا مع إخوة لنا من دارين وعنك والزور في الدراسة والعمل، والمشاركة في البرامج المشتركة وتلبية الدعوات دون أي حاجز أو عائق.
في مركب واحد
وأوضح المواطن علي بوفلاسة «76 عاماً» من قرية الزور، بأن هذه القرية الصغيرة كان يقطنها السنة والشيعة وتتجاور منازلهم معاً منذ قديم الزمان، وكانت العلاقة بين جميع الطوائف جيدة ولا توجد بينهم أي مشكلات. وقال: كنّا نذهب إلى قرية سنابس لبعض الأهالي مثل أبناء السالم والحبيب والعبندي، وكنّا إذا تأخرنا ننام عندهم في منازلهم ونأكل معهم في طبق واحد.
وأضاف: وأتذكر قبل 65 عاماً مضت كنّا نذهب باستمرار إلى «حمام تاروت «للاستحمام والاسترخاء ونستمتع بالسباحة في «العين العودة»، كما يجتمع غواصو اللؤلؤ والبحّارون في «سوق تاروت» العامرة بالتجارة وأدوات البحر والزاد، من أجل التزود بما يحتاجونه في رحلاتهم دون أن يدفعوا النقود ثم يوفون بدينهم، وكان الصيادون وغواصو اللؤلؤ - السنة والشيعة - يدخلون البحر في مركب واحد مع بعضهم والعكس، مثلاً كان النواخدة سعد موافي ووافي بن سعد من أهالي الزور وكان بحارة وغواصو تاروت وسنابس يدخلون معهم البحر، ولا يوجد شيء يفرقهم في ذلك الوقت، والوجه بالوجه أبيض والقلب صافٍ».
وأكد البوفلاسة بأن السنة في الزور ودارين وعنك يشاركون الشيعة في تاروت والقطيف مناسباتهم، ويأتون من أجل أكل رز «المحموص» المشهور هناك، بل إن أهالي تاروت يرسلون «القدور» المملوءة برز «المحموص» إلى الزور ودارين لبعض العوائل هناك كعادة سنوية، وأهالي دارين كانوا ينتظرونه كل عام، فالمعزّة والمحبة كانت ومازالت قائمة بين الأهالي.
وأكد عضو المجلس المحلي بالقطيف سعيد الخباز، أن التعايش السلمي بين قاطني القطيف سمة التحضر فيها طوال سنين، حتى عندما كانت تسود بعض الفوضى والغزو «القبلي» للقطيف، كان «بنوخالد» بمثابة صمام الأمان الجنوبي للقطيف الحالية حتى إذا استتب الأمن في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز، شعر الناس فيها بالطمأنينة.
مضيفاً: لا أريد أن أسهب كثيراً في سرد ذكرياتي الشخصية منذ الطفولة في تعايشنا بعضنا مع بعضنا الآخر لأنها مستمرة - ولله الحمد - طوال حياتي التي بدأت قبل ستين عاماً، وأدعو الله متضرعاً بألا يغيّر علينا هذه النعمة مصداقاً لقوله تعالى «ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «الأنفال/53»، فمادامت الأنفس دواخلها طاهرة نقية، فإن الله متمُّ نعمته علينا.
وذكر الخباز موقفاً له في زمن الطفولة يوضح سمة التعايش بين أهالي تاروت ودارين، وهذه النعمة التي نحن في ظلالها، وقال: كانت «أم علي» بائعة متنقلة ننتظرها - في زمن الطفولة «خمسينيات القرن العشرين» - كل أسبوع تقريباً لتزورنا في البيت وتعرض على أختي - حفظها الله - ما استجد لديها من بضاعة تأتي بها من البحرين، على ما أذكر. كانت أختي تقول لها: يا أم علي، تعرفي أننا لا نستطيع شراء بضاعة جديدة كل أسبوع، فيتدخل والدي يرحمه الله قائلاً: «عادة كريمة لأم علي، لا تقطعوها»!، ومرت السنون وأم علي لاتزال على عادتها. وبعد أن «تقاعدت» من البيع المتنقل، لم تقطع زياراتها لنا، حتى توفاها الله، ورأيت بالغ الحزن الصادق في عيون والدي يرحمه الله، وعيون أختي الكريمة، يحفظها الله. يرحم الله السيدة الفاضلة «أم علي» من دارين الحبيبة.
وأضاف: مساء السبت الماضي، كنت في أحد فروع مؤسستنا، فإذا بشاب - لا أعرف اسمه - يدخل ويلقي علينا تحية الإسلام مبتسماً. وبعد تبادل التحايا والتبريكات بهذا الشهر الكريم والليالي الفضيلة، قال لي بابتسامته التي لم تفارق محياه: «شكراً لافتتاح هذا الفرع قريباً منا - أهل دارين - فأنتم ربعنا وأهلنا… ونحن أولى ببعض، وكل العواطف التي تجمّعت على مدى ستين عاماً كادت أن تفضحني - بالحسنى - أمام هذا الشاب الجميل من «دارين»، أيضاً، هؤلاء نحن… وأولئك نحن، وهكذا كنا، وهكذا سنبقى: نحن!
أنموذج للتعايش
وذكر الباحث والمؤرخ جلال خالد الهارون بأن واحة القطيف قديماً مكونة من ثلاث مدن رئيسة وأكثر من 17 قرية متباينة، منها قرى يسكنها «الشيعة» بمختلف مذاهبهم وطبقاتهم الاجتماعية، فيهم البحار والفلاح والإقطاعي، وإلى جوراهم قرى أخرى يسكنها «السنة» بمخلتف مذاهبهم وطبقاتهم الاجتماعية، منهم أيضاً البحار والطواش والحضري والبدوي والشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي، وتتخلل هذا النسيج الاجتماعي التعددي أقليات عرقية «غير إسلامية» وافدة إلى المنطقة بهدف التجارة، أشهرها طائفة «البانيان» الهنود الذين استقروا في مدينة القطيف وفتحوا لهم محالَّ تجارية لشراء وتصدير التمور واللؤلؤ.
وأضاف: لقرون عديدة خلت عاش الجميع في هذه الواحة بسلام بمختلف أعراقهم وأجناسهم ومذاهبهم، والتاريخ شاهد على ذلك، فلم يصل إلينا نحن أبناء هذا الجيل عن أسلافنا سكان هذه الواحة أي «نتاج فكري» مخطوط أو مسموع يدل على وجود حراك اجتماعي غير سوي قائم على أسس عنصرية أو طائفية أو قبائلية، حيث إني خبرت كبار السن من أفراد الأسرة إذا جمعتهم مناسبة سعيدة في قرية دارين كأيام العيد مثلاً، كانوا يذهبون إلى قريتي تاروت وسنابس لتهنئة سكان تلك القرى بهذه المناسبة، وكانوا أيضاً يجتمعون في حال وفاة شخص من معارفهم في تلك القرى ويذهبون لتقديم واجب العزاء وأهل تاروت وسنابس يقابلون كذلك بالمثل.
وأكد الهارون بأن الاختلاف بين سكان الواحة هو اختلاف «محمود» قائم على أساس الفطرة والنزعة البشرية وحسب، في حب التنافس وكسب الجاه والمجد وليس للبشر مجال للعيش بسعادة دونها، وقال: لقد سجل لنا التاريخ المحلي اختلافاً بين البحارة والنواخذه والطواشيين، والفلاحين والإقطاعيين، دون تميز بين «سنة وشيعة» والجميع طالبوا بحقوقهم لمنع تسلط الفئات الأقوى على الفئات الأضعف، ونتجت عن ذلك أنظمة وتشريعات لضبط إيقاع الحراك الاجتماعي، ومن أشهر الأمثلة على ذلك تأسيس «المجلس العرفي للغوص بالقطيف» المكون من عدة أعضاء يمثلون مختلف قرى القطيف الساحلية، بهدف حفظ الحقوق وتسوية الخلافات بين البحارة والنواخذة، لذا فإن هذا النوع من الاختلاف كان طبيعياً وفطرياً.
مضيفاً: لا أعتقد بأن النسيج الاجتماعي في «قطيف الأمس» اختلف كثيراً عنه في «قطيف اليوم»، فأصبح من المتعذر على السكان بمختلف أطيافهم التعايش فيما بينهم بسلام، أو أنهم أصبحوا غير قادرين على مواجهة تحديات «اقتصادية وسياسية وثقافية» لم تكن معهودة في الأزمنة القديمة، لذا أعتقد أنه ينبغي على الجميع، كل فرد صغيراً كان أم كبيراً، أن يبادر فوراً بما يستطيع لتعزيز الوحدة واللحمة الوطنية ليس في محافظة القطيف، بل في كل محافظات المملكة العربية السعودية، لندافع بذلك عن تاريخنا وثقافتنا.
ويقول المفكر الإسلامي محمد المحفوظ إنه على المستوى التاريخي وفي الذاكرة الشعبية لغالبية أهل القطيف، كانت العلاقة القائمة بين أهلها من الشيعة والسنة علاقة قائمة على الود والاحترام المتبادل والمشاركة الاجتماعية المفتوحة على كل المبادرات والخطوات الإيجابية.. وفي تقديرنا أن الذاكرة الشعبية مملوءة بالقصص والأحداث ومستوى التداخل الاجتماعي.. فالانتماء المذهبي لم يكن عائقاً أمام التواصل الاجتماعي والاحتكاك الإيجابي.
ويضيف المحفوظ بأن المحافظة كانت تنجز التعايش السلمي بإرادة أهلها ووعي نخبها الدينية والاجتماعية.. ولكن لأسباب عديدة لسنا بصدد ذكرها، أصيبت حالة التعايش ببعض الهنات والصعوبات، وعلى كل حال نحن بحاجة أن نؤكد على قيمة التعايش، وندعو جميع الأطراف من مختلف المواقع إلى إغناء هذه القيمة في الفضاء الاجتماعي بمزيد من مبادرات التواصل والتعارف، التي تعمق خيار التعايش في المجتمع، لافتاً إلى أن التعايش الذي نقصده لا يساوي السكون والرتابة في العلاقة، وإنما التفاعل المفتوح على كل القضايا، وتفعيل المساحات المشتركة، وحماية كل عناصر ومتطلبات التآخي والاندماج بين مختلف تعبيرات المجتمع. ويقول المحفوظ «التعايش في جوهره هو إيجاد الموازنة الفذة والواعية بين ضمان حق الاختلاف وضرورة الالتزام بكل مقتضيات المساواة في الحقوق والواجبات، فتعالوا جميعاً نحمي تعايشنا الأهلي بمزيد من الانفتاح والتواصل ورفض نزعات الانطواء وبث الكراهية بين المواطنين لاعتبارات طائفية أو مناطقية». ويرى القاضي في دائرة الأوقاف والمواريث الجعفرية التابعة لوزار العدل بالقطيف، بأن وعي المجتمع في المحافظة عزّز حالة الترابط بين أبناء المجتمع، بدليل تجاهل الجميع للتصرفات الفردية والشاذة التي قد تصدر من البعض، وهو الأمر الذي وصل لدرجة الترفّع عن الوقوف عند أي شيء قد يسبب خللاً في التركيبة الاجتماعية لأبناء المنطقة، مؤكداً أن أبناء الطائفتين يتعايشون ويتجاورون في عدة مناطق في المحافظة وتجمعهم روح المحبة والأخوة الإسلامية.
المصدر: راصد