السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيّها السائل الكريم، السلام عليك وعلى جميع المؤمنين. وبعد:
فلا تبتئس بما قاله لك المسلم السُنّي، ولا تحزن لِما أورده لك من كلام إمامه وشيخ إسلامه (ابن تيمية)، وقل له:
أوّلاً: إنّ إمامك كان ناصبياً، ويسرّ حسواً في ارتغاء، فلا يلزمنا كلامه، ويكفينا في تعريفه مقالة أهل السُنّة فيه. وإليك بعض ذلك:
1-
قال ابن حجر الهيتمي المكّي في كتابه (الجوهر المنظّم في زيارة القبور
المعظّم - المكرّم): ((مَن ابن تيمية حتّى ينظر إليه، أو يعوّل في شيء من
أُمور الدين عليه؟!))(1).
2- وقال في (الفتاوى الحديثية):
((ابن تيمية عبد خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه واذّله، وبذلك صرّح
الأئمّة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله...))(2).
فهذا حال ابن تيمية بشهادة ابن حجر، وهو غير متّهم عليه بممالاة الشيعة فيه؛ لأنّه صاحب (الصواعق المحرقة).
ثانياً: ما دمت نقلت عن ابن تيمية بعض
كلامه محتجّاً به علينا، وليس يلزمنا ذلك، فلننقل لك أيضاً بعض الشواهد من
كلامه نحتجّ بها عليك ولا يسعك التخلّف عن آثارها، وهي تكفي في الدلالة على
نصبه العنيد ودفاعه عن يزيد.
فإليك نماذج من تحريفاته بشأن استشهاد الحسين(عليه السلام):
1-
((إذ لم يكن في الخروج - خروج الحسين - مصلحة لا في دين ولا في دنيا...
وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن يحصل لو قعد في بلده))(3).
2-
((فإنّ ما قصده الحسين من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد
الشرّ بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك وصار سبباً لشرّ عظيم))(4).
3- ((إنّ القصّة التي يذكرون فيها حمل الرأس إلى يزيد ونكته بالقضيب كذبوا فيها))(5).
4- ((إنّ نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد))(6).
5- ((ويزيد لم يسبِ للحسين حرماً، بل أكرم أهل بيته))(7).
6-
((أمّا ما يرويه من لا عقل له يميّز به ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة
المنقول، من أنّ أهل البيت سبوا، وأنّهم حملوا على البخاتي - وأنّ البخاتي
نبت لها من ذلك الوقت سنامان - فهذا من الكذب الواضح الفاضح لمن يقول به))(8).
7- ((فإن وقع شيء من ذلك - يعني سمّ معاوية للإمام الحسن(عليه السلام) - فهو من باب قتال بعضهم بعضاً))(9).
8-
((وليس ما وقع من ذلك - يعني سمّ الحسن(عليه السلام) وقتل الحسين(عليه
السلام) - بأعظم من قتل الأنبياء فإنّ الله تعالى قد أخبر أنّ بني إسرائيل
كانوا يقتلون النبيين بغير حقّ، وقتل النبيّ أعظم ذنباً ومصيبة...))(10).
9-
((ولكن ظهر من أمره - يزيد - في أهل الحرّة ما لا نستريب أنّه عدوان
محرّم، وكان له موقف في القسطنطينية - وهو أوّل جيش غزاها - ما يعدّ من
الحسنات))(11).
10- ((ولكنّ - أي يزيد - لم يقتل جميع
الأشراف، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر
النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم))(12).
فهذه عشرة شواهد
تغنيك في معرفة ابن تيمية الناصب المعاند، ولا تنسَ بأن تسأل المسلم
السُنّي عن إمامه ابن تيمية. أين مات؟ فقد مات في السجن. ولماذا سجن؟ لأنّه
قد حاكمه أصحاب المذاهب عند السلطان على شذوذه في آرائه. وحسبك أن تدلّه
فليقرأ رسالة الذهبي إليه وهي في (تكملة السيف الصقيل) للكوثري(13)، ولينظر ما قاله الكوثري عنه في كتاب مقالاته.
وإلى هنا تبيّن لك أنّ ما قاله ابن تيمية ليس له عندنا ولا عند غيرنا من بقية المسلمين - سوى أتباعه - ما يسوى شروى نقير.
والآن عودة إلى ما عابه من إقامة المآتم في المصائب، وهو غير صائب، بل
هو خائب؛ لأنّا سنذكر له بعض ما لا يسعه إنكاره من مصادره الموثوقة عند أهل
السُنّة،
فسله: (أوّلاً): ما رأيه في ما
جاء في صحيح البخاري في كتاب الجنائز (باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه
الحزن): وروي في حديث عائشة، قالت: لمّا جاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله
وسلّم) قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من
صائر الباب - شقّ الباب -.
قال القسطلاني في (إرشاد الساري)، قوله: ((جلس)) عليه الصلاة والسلام، أي: في المسجد، كما في رواية أبي داود(14).
وقال شيخ الإسلام ابن حجر في (فتح الباري): ((وفي هذا الحديث من الفوائد
أيضاً: جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وجواز نظر النساء المحتجبات إلى
الرجال الأجانب...))(15)؟
وسله (ثانياً): ما رأيه في ما رواه
البخاري في صحيحه في الباب السابق أيضاً، عن أنس، قال: قنت رسول الله(صلّى
الله عليه وآله وسلّم) شهراً حين قتل القرآء، فما رأيت رسول الله(صلّى الله
عليه وآله وسلّم) حزن حزناً قط أشدّ منه(16).
قال ابن حجر في (فتح الباري): وشاهد الترجمة منه قوله: ما حزن حزناً قط أشدّ منه، فإنّ ذلك يشمل حال جلوسه وغيرها. انتهى(17).
فقل للسُنّي إذا جاز القنوت شهراً لإظهار الحزن جاز الجلوس لذلك أيضاً شهراً ودهراً؟
وسله (ثالثاً): ما رأيه في ما رواه الطبري في (تاريخه)(18)، وابن عبد ربّه الأندلسي في (العقد الفريد)(19)،
والحلبي في (السيرة النبوية)، واللفظ للطبري: ((ومرّ رسول الله (صلّى الله
عليه وآله وسلّم) بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وبني ظفر، فسمع
البواكي والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله
وسلّم)، ثمّ قال: (لكن حمزة لا بواكي له).
قال الحلبي في سيرته: فأمر
سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله(صلّى الله عليه
وآله وسلّم) يبكين حمزة بين المغرب والعشاء، وكذلك أسيد بن حضير أمر نساءه
ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبكين
حمزة(20)..
ولمّا جاء(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيته حمله
السعدان وأنزلاه عن فرسه، ثمّ أتكأ عليهما حتّى دخل بيته، ثمّ أذّن بلال
لصلاة المغرب، فخرج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مثل تلك
الحال يتوكّأ على السعدين، فصلّى(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلمّا رجع من
المسجد من صلاة المغرب سمع البكاء فقال: ما هذا؟ فقيل نساء الأنصار يبكين
حمزة، فقال: (رضيّ الله تعالى عنكنّ وعن أولادكنّ)، وأمر أن تردّ النساء
إلى منازلهنّ، وفي رواية خرج عليهنّ، أي بعد ثلث الليل لصلاة العشاء، فإنّ
بلالاً أذّن بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله(صلّى الله عليه
وآله وسلّم)، فلمّا ذهب ثلث الليل نادى بلال الصلاة يا رسول الله، فقام من
نومه وخرج... وهنّ على باب المسجد يبكين حمزة (رضي الله تعالى عنه)... فقال
لهنّ: (ارجعن رحمكن الله، لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار، فإنّ
المواساة فيهم كما علمت قديمة)... صارت الواحدة من نساء الأنصار بعد لا
تبكي على ميّتها إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة (رضي الله تعالى عنه) ثمّ بكت
على ميّتها؟
وسله (رابعاً): عمّا رواه الطبري في تاريخه عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، قال: لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح.
وفي
حديث سعيد بن المسيب: أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطّاب حتّى
قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر فأبين أن ينتهينَ، فقال عمر
لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة أخت أبي بكر. فقالت عائشة
لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إنّي أُحرّج عليك بيتي. فقال عمر لهشام: ادخل
قد أذنت لك. فدخل هشام، فأخرج أُمّ فروة أخت أبي بكر إلى عمر فعلاها
بالدرّة، فضربها ضربات، فتفرق النوح حين سمعوا ذلك(21).
فقل
له: لا يخلو الأمر إمّا أن يكون فعل عائشة صحيحاً بإقامة النوح، فلا يجوز
لعمر أن يمنعه، وإمّا أن يكون الأمر بالعكس، ولمّا كانت عائشة تروون في
حقّها: ((خذوا شطر دينكم عن الحميراء))(22)، فهي أعلم من عمر الذي لم يرد شيء في فقاهته، بل هو كان يعترف على نفسه فيقول: ((كلّ الناس أفقه منك يا عمر))(23).
إذن فعقد مجلس النوح جائز وليس ببدعة، وقد أقامته أُمّ المؤمنين عائشة على أبيها.
وسله (خامساً): لئلا يستزل الشيطان هذا
السُنّي فيقول بمنع عمر، فإنّ عمر نفسه قد ناقض نفسه! وذلك حين مات خالد بن
الوليد؛ فقد روى البخاري في صحيحه: ((وقال عمر (رضي الله عنه): دعهنّ
يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة. والنقع: التراب على الرأس.
واللقلقة: الصوت))، انتهى(24).
ونحو هذا رواه ابن عبد البرّ
في (الاستيعاب) أيضاً، بل روى في آخر ترجمة خالد فقال: ((وذكر محمّد بن
سلام، قال: لم تبق امرأة من بني المغيرة إلاّ وضعت لُمّتها على قبر خالد بن
الوليد، يقول: حلقت رأسها))(25)!
فأين كان عنهنّ عمر؟!!
فلماذا لم ينهَ عن الحلق وقد بريء رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من
الصالقة والحالقة والشاقّة، كما رواه البخاري في صحيحه(26).
وعجيب
أمر عمر في تناقضه! فهو ينهى عائشة وآل أبي بكر عن النوح على أبي بكر وهو
صاحبه، ولولاه لَما صار خليفة من بعده، ويسمح بالبكاء لنساء بني المغيرة في
النوح على خالد على ما كان بينهما من عداوة وهجرة، كما هو معروف(27)،
حتّى انّ ابن حجر ذكر في (الإصابة) في أواخر ترجمة خالد أنّ عمر: سمع
راجزاً يذكر خالداً، فقال: رحم الله خالداً، فقال له طليحة بن عبيد الله:
لا أعرفنّك بعد الموت تندبني ***** وفي حياتي ما زودتني زادي(28)
وسله (سادساً): عمّا ورد في تأبين الأموات، بدءاً من وقوف فاطمة(عليها السلام) على قبر أبيها(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ***** وغاب مذ غبت عنّا الوحي والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا ***** لمّا نعيت وحالت دونك الكثب(29)
ومروراً بمجيء أعرابي وقف على قبر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: قلت فقبلنا، وأمرت فحفظنا، وبلّغت عن ربّك فسمعنا: ((
وَلَو أَنَّهُم إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم جَاءُوكَ فَاستَغفَرُوا اللَّهَ
وَاستَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً )) (النساء:64) وقد ظلمنا أنفسنا، وجئناك فاستغفر لنا. فما بقيت عين إلاّ سالت(30).
وكذلك موقف ابن مسعود على قبر عمر يبكي ويطرح رداءه ثمّ أبّنه(31).
وانتهاءً
بقول أمير المؤمنين(عليه السلام) على خبّاب بن الأرتّ، لمّا رجع من حرب
صفّين إلى الكوفة، فوجد خبّاباً قد مات، فوقف على قبره وقال: (رحم الله
خبّاباً، لقد أسلم راغباً، وجاهد طائعاً وعاش زاهداً، وابتلي في جسمه فصبر،
ولن يضيّع الله أجر من أحسن عملاً)(32).
إلى غير ذلك من جمل
الرثاء التي تحمل آيات الثناء، وتعرب عن جليل العزاء فضلاً عن البكاء. سوى
ما روي من المراثي ممّا لا يعد ويحصى بدءاً من الصحابة ومن بعدهم إلى يوم
المسلمين.
وسله (سابعاً): عن سُنّة الجلوس للعزاء عند المسلمين ألم تكن قائمة دائمة؟! وما رأيه في ما رواه ابن قيّم الجوزية، وهذا تلميذ إمامه ابن تيمية، وهو على شاكلته في كتابه (بدائع الفوائد) فقال: لمّا توفّي العبّاس أحجم الناس عن تعزية ولده عبد الله إجلالاً له وتعظيماً، حتّى قدم رجل من البادية فأنشده:
اصبر نكن بك صابرين وإنّما ***** صبر الرعية بعد صبر الرأس
خير من العبّاس صبرك بعده ***** والله خير منك للعبّاس
قال: فسريّ عنه وأقبل الناس على تعزيته. انتهى(33)..
وسله (ثامناً): هل صحّ عنده ما رواه ابن سعد في (الطبقات)(34)، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام): أنّ ابن عبّاس، حبر الأُمّة وترجمان القرآن، لمّا أتاه نعي الحسين(عليه السلام) جلس للعزاء، فدخل عليه الناس يعزّونه، وكان عنده محمّد بن الحنفية، فكان ممّن أتاه معزّياً: عبد الله بن الزبير وآخرون(35).
وسله (تاسعاً): عمّا رواه ابن الأثير في (أُسد الغابة)، وابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) في وفاة عبد الرحمن بن أبي بكر - وهذا هو شقيق عائشة - واللفظ لابن كثير: ولمّا توفّي كانت وفاته بمكان يقال له: (الحبشي) - على ستّة أميال من مكّة، وقيل: اثني عشر ميلاً - فحمله الرجال على أعناقهم حتّى دفن بأعلى مكّة، فلمّا قدمت عائشة مكّة زارته وقالت: أما والله لو شهدتك لم أبك عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي متّ فيه. ثمّ تمثّلت بشعر متمّم بن نويرة في أخيه مالك:
وكنّا كندمانَي جذيمة حقبة ***** من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا
فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالك ***** لطول إجتماع لم نبت ليلة معا
قال ابن كثير: رواه الترمذي وغيره.
وقال ابن الأثير: ولمّا اتّصل خبر موته بأُخته عائشة ظعنت إلى مكّة حاجّة، فوقفت على قبره، فبكت عليه وتمثّلت:
وكنّا كندماني جذيمة حقبة ***** من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا
فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكاً ***** لطول إجتماع لم نبت ليلة معا(36)
وسله (عاشراً): عمّا رواه البخاري في
الجنائز من صحيحه (باب الجريد على القبر):... ورأى ابن عمر(رض) فسطاطاً على
قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، إنّما يظلّه عمله(37).
وفي
(فتح الباري)، قال: ((مرّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر
أخي عائشة وعليه فسطاط مضروب. فقال: يا غلام انزعه، فإنّما يظلّه عمله. قال
الغلام: تضربني مولاتي. قال: كلا. فنزعه.
ومن طريق ابن عون، عن رجل،
قال: قدمت عائشة ذا طوى حين رفعوا أيديهم عن عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرت
بفسطاط، فضرب على قبره، ووكّلت به إنساناً وارتحلت، فقدم ابن عمر، فذكر
نحوه))(38).
وزاد ابن سعد في ترجمة عبد الرحمن في طبقاته على
ما ذكره أنّ امرأة قالت لعائشة وإنّك لتفعلين مثل هذا يا أُمّ المؤمنين؟
قالت: وما رأيتني فعلت؟ انّه ليست لنا أكباد كاكباد الإبل(39).
وروى ابن عبد البر في (التمهيد) عن ابن أبي مليكة قوله: زارت عائشة قبر أخيها في هودج(40).
وعن
ابن أبي مليكة أيضاً، قال: رحت من منزلي وأنا أريد منزل عائشة فلقتني على
حمار فسألت بعض من كان معها قال: زارت قبر اخيها عبدالرحمن(41).
أليس
فيما ذكرت من الشواهد ما يكفي لإثبات سنّة الجلوس للعزاء، وعقد مجالس
النوح والبكاء وإنشاد وسماع واستماع الرثاء، وزيارة القبور، والدعاء عندها
بالمأثور؟!
وبعد، هل يحقّ للسنّي أن يلوم من يحيي ذكرى استشهاد الحسين(عليه
السلام)، أو ينتقد مظاهر الحزن التي يمارسها الشيعة معبّرين عن شعورهم
بالولاء لصاحب الذكرى؟
وإنّما يصرّ الشيعة على إحياء مراسم العزاء في كلّ عام تذكيراً للآخرين، (( وَذَكِّر فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ المُؤمِنِينَ )) (الذاريات:55)، ولئلا يلفّها ضباب النسيان، وينكرها أتباع آل أبي سفيان كما حدث لبيعة الغدير، وإسقاط المحسن و...
ثمّ
هي خير وسيلة إعلامية يملكها الشيعة لتبليغ مبادئهم، وبلوغ مآربهم في
إفهام الآخرين مظلومية أهل البيت(عليهم السلام)، وفضح أعمال الأمويين
والعبّاسيين وغيرهم من أعداء الدين.
وإنّما خصّوا الحسين(عليه السلام)
بمزيد من الذكرى؛ لأنّه بقية الخمسة من أصحاب الكساء، ولولاه لقضى بنو
أُميّة على دين جدّه، وقد استهانوا بكلّ قيمه وأخلاقياته. وحسبك أن تقرأ من
خطبة للحسين(عليه السلام) قوله: (أيّها الناس! إنّ رسول الله(صلّى الله
عليه وآله وسلّم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً
لعهد الله، مخالفاً لسُنّة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يعمل في
عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بعمل ولا قول، كان حقّاً على
الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة
الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام
الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر...)(42).
فهو (عليه السلام) أعلن سرّ نهضته، فمن أحقّ من شيعته بالاستجابة لدعوته؟
كما
إنّ مظاهر إحياء الذكرى بما فيها من خروج المواكب في الطرقات، وحتّى ما
يجري فيها ممّا يسميه السُنّي: (من المناظر المخزية المخجلة) ليست هي أخزى
بدعة من ضرب (الدرباش) وبدعة الرقص وما إليه ممّا يمارسه أهل الوجد
والمجاذيب من أهل السُنّة، حتّى قال شاعرهم الأخرس البغدادي ناقداً لهم:
أقال الله صفّق لي وغنّي ***** وقل هجراً وسمّ الهجر ذكرا
فإن تكن السيادة باخضرار ***** فإنّ السلق أشرف منك قدرا(43)
وما هي ألاّ كنحو (العرضة) التي يمارسها أشياخ قومه حتّى اليوم.
وهل
ينكر ما تعرضه برامج قناته التلفزيونية من تمثيليات، لا يستسيغها كثير من
أبناء بلده، فهل هو ممّن يرى القذاة في عين غيره، ولا يرى الجذع في عينه؟
وأحسبه إنّما قال: (مناظر مخزية مخجلة)، لأنّها تكشف عن صحائف يحسبها منسية، وتثير الحس الخامل والغافل للبحث عن ملابسات القضية.
نعم،
هي أخزى لأنصار بني أُميّة؛ فإنّ إقامة الشعائر الحسينية تذكيرٌ للناس
بتاريخ الأمويين المخزي، فتظهر خزايتهم بارتكاب عظيم الجنايات في المسلمين،
ولم يكن السُنّي أوّل من يستنكر إقامة تلك الشعائر، ولا يكون آخرهم.
فهم قد دأبوا على استنكار إعادة تلك الذكريات، حتّى قال شاعرهم:
هتكوا الحسين بكل عام مرّة ***** فتمثّلوا بعداوة وتصوّروا
ويلاه من تلك الفضيحة إنّها ***** تطوى وفي أيدي الروافض تنشرُ(44)
فردّ عليه غير واحد من شعراء الشيعة، فقال بعضهم مشطّراً للبيتين وراداً الصاع بصاعين:
(هتكوا الحسين بكلّ عام مرّة) ***** اَبناء من قتلوا الحسين فكبّروا
قد ساءهم أن لا يكونوا شاركوا ***** (فتمثّلوا بعداوة وتصوّروا)
(ويلاه من تلك الفضيحة إنّها) ***** تحكي الذي فعلوه لمّا تذكرُ
فبها فضيحتهم تبيّن وجهدهم ***** (تطوى وفي أيدي الروافض تنشرُ)
والآن فلندع هذا كلّه جانباً، ولننظر إلى مسألة إقامة الشعائر الحسينية من الوجهة الشرعية، فماذا تقتضيه الأدلّة والقواعد؟ فنقول:
أوّلاً:
إنّ الأصل في الأشياء: الإباحة، ما لم يأتِ تحريم ببرهان. فعلى مدّعي
الحرمة إقامة الدليل عليها من كتاب أو سُنّة ثابتة مقبولة؛ فالأصل إذاً مع
منكر الحرمة لا مع المستنكر، فلنا مطالبته بالدليل لا بالتضليل.
ثانياً: كلّ عمل من تلك الأعمال على الإجمال يسع الفقيه المتظلّع تخريج
وجه له وجيه، من عمومات الأدلّة ومحكمات القواعد المعقولة والمنقولة. كما
يستفاد من كلام المغفور له الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله) في جوابه على
مسائل البصريين حول ما يجري في الساحة من ذكرى عاشوراء(45)، وله كلام في ذلك ننقل بعضه مضموناً في ما يخص مسألة اللطم على الصدور، وخروج المواكب في الطرقات:
1-
ففي مسألة اللطم واللدم حسبنا ما يرويه أعلامنا، ويرويه أيضاً غيرنا، من
حديث دعبل بن علي الخزاعي، وإنشاده قصيدته التائية عند الإمام الرضا(عليه
السلام) أيّام ولاية العهد بخراسان، وكان منها:
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً ***** وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ
إذاً للطمت الخدّ فاطم عنده ***** وأجريت دمع العين في العبراتِ
فسمع الإمام الرضا(عليه السلام) ولم يستنكر عليه قوله، فإذا جاز لمثله أن يسمع ذلك ثمّ هو يبكي، ويثيب الشاعر على قصيدته ثواباً جزيلاً، فجائز لنا أن نلطم الخدّ أو الصدر في المصيبة الحسينية ما دام مشروعاً، ولو كان منكراً فيه خلاف للشرع لأنكره، ولكنّه لم ينكر؛ فهو جائز(46).
2- وأمّا مسألة خروج المواكب في الطرقات فهو أيضاً جائز في نفسه دون ما
قد يصادفه من وقوع بعض المحرّمات؛ فإنّ مساوقة المحرّم للخروج لا تعني حرمة
الخروج؛ لأنّ حرمة الشيء لا توجب حرمة ما يقع فيه، فمن تغنّى بالقرآن
مثلاً، لا يقال له: إنّ قراءة القرآن حرام، بل يقال له إنّ التغنّي بالقرآن
حرام.
على أنّ خروج المواكب قد ثبت تاريخاً أنّه كان من عهد البويهيين
في بغداد منذ القرن الرابع الهجري، وكان ذلك العصر يعجّ بأفذاذ العلماء
وجهابذة العلم، كالشيخين المفيد وابن قولويه والشريفين المرتضى والرضي،
والشيخ الطوسي، ولم يسمع من أحدهم إنكار ذلك بل ورد إنّ الشريف الرضي (رحمه
الله) لما ورد لزيارة جدّه الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء، ورأى جماعة
من الأعراب يعدون ركضاً وهم ينوحون ويلطمون، دخل في زمرتهم، وأنشأ في ذلك
الحال على البديهية مرثيته الخالدة، التي لازالت حتّى اليوم تُتلى،
وأوّلها:
كربلا لا زلت كرباً وبلا *****ما لقي عندك آل المصطفى
الى أن يقول فيها:
لو رسول الله يحيى بعدهم ***** قعد اليوم عليهم للعزا(47)
ونحن نقول له: أيّها الشريف! لقد قعد رسول الله(صلّى الله عليه وآله
وسلّم) للعزاء عليهم من يوم ولادة الحسين(عليه السلام) حين هبطت عليه
ملائكة الرحمن تهنيه بمولد الحسين(عليه السلام)، وتعزّيه بما يجري عليه،
وقد تكرّر منهم ومنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن بكى وأخبر أزواجه
وأصحابه بمقتل الحسين، حتّى ورد في حديث لعائشة، قالت:... فلمّا ذهب
جبريل(عليه السلام) من عند رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج رسول
الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتربة في يده يبكي، فقال: (يا عائشة!
إنّ جبريل(عليه السلام) أخبرني أنّ ابني الحسين مقتول في أرض الطف، وأنّ
أمّتي ستفتن بعدي)..
ثمّ خرج إلى أصحابه وفيهم: عليّ وأبو بكر وعمر
وحذيفة وعمّار وأبو ذرّ(رضي الله تعالى عنهم) وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك
يا رسول الله؟ فقال: (أخبرني جبريل أنّ ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف،
وجاءني بهذه التربة، وأخبرني أنّ فيها مضجعه).
وهذا الحديث أورده الطبراني في ترجمة الحسين من معجمه الكبير(48)، والهيثمي في (مجمع الزوائد)(49)، والماوردي في (أعلام النبوّة)(50)، والمتقي في (كنز العمّال)(51)، وغيرهم.
3- وأمّا مسألة زيارة قبورهم(عليهم السلام) فهي مستحبّة عندنا مؤكّدة
الاستحباب، كما أنّ عند العامّة زيارة القبور مسنونة أيضاً؛ لأنّها تذكّر
بالآخرة، وحتّى البكاء عند القبور ليس فيه محذور؛ فإنّ رسول الله(صلّى الله
عليه وآله وسلّم) زار أُمّه (آمنة بنت وهب) ومعه ألف مقنّع، فبكى وبكوا
معه حتّى لم ير باكياً أكثر من يومئذ.
وهذا ما رواه أهل السُنّة، كمسلم في صحيحه(52)، والغزالي في (الإحياء)(53)، والحلبي في سيرته(54)، وزيني دحلان في سيرته أيضاً(55)،
فهل علم السُنّي أنّ أُمّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ماتت وكان هو
ابن ستّ سنين على أكثر تقدير؟ وهل درى أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله
وسلّم) زار قبر أُمّه وهو في طريقه إلى عمرة الحديبية، أي: بعد أربع وخمسين
سنة؟ وهل درى أنّ قبر آمنة كان بالأبواء بين مكّة والمدينة، وثمّة رواية
أنّه بالحجون بمكّة، وقيل - جمعاً بين الروايتين ــ: أنّها دفنت أوّلاً
بالأبواء، ثمّ نبشت ونقلت إلى مكّة ودفنت بالحجون، كما ذكره زيني دحلان في
سيرته.
وهل درى أنّ الشيعة إنّما يفعلون نحو هذا اقتداءً بسُنّته(صلّى
الله عليه وآله وسلّم)؛ فهم يزورون قبور أئمّتهم وإن تطاول العهد ومهما طال
الأمد، ويعمّرونها بإصلاحها وهم يحيون مراسم ذكراهم، ويقيمون العزاء
عليهم، ويبكون لمصابهم، كلّ ذلك اقتداء بسُنّته(صلّى الله عليه وآله
وسلّم).
4- وأمّا أعمال الشبيه على ما فيه ممّا ينبغي عليه التنبيه، فإنّه كأيّ
عمل آخر يشوبه ما يقتضي التنزيه، ولا يعني ذلك الحكم بالحرمة لمجرّد وقوع
بعض المنافيات التي ليست هي منه بسبيل، وإن آثار ذلك التمثيل أسرع تأثيراً
في الناس من باقي مظاهر الحزن والعزاء.
حتّى أدرك ذلك الغربيون
والشرقيون فجلب انتباههم وصاروا يبحثون عن الحسين(عليه السلام): من هو؟ وما
هي أهداف ثورته؟ ولماذا يحيي الشيعة ذكراه كلّ عام؟
واقتنع غير واحد
منهم بمبدأ الحسين(عليه السلام) حتّى قال بعضهم: ((لقد شيّعني الحسين)).
وقال غاندي: ((تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً فانتصر)). ولأحد
المستشرقين كلمة في المقام يحسن إيرادها، وذلك هو: الدكتور جوزيف الفرنسي،
في كتابه (الإسلام والمسلمون)، قال: ((من جملة الأُمور السياسية التي
ألبستها رؤساء فرقة الشيعة بصبغة مذهبية منذ قرون، وصارت مؤثرة جدّاً لجلب
قلوبهم وقلوب غيرهم هي: أُصول التمثيل باسم التشبيه والتعزية في مأتم
الحسين.
التمثيل أدخلته حكماء الهند في عباداتها لعدّة أغراض خارجة عن
موضوع بحثنا، الأوربيون بمقتضى السياسة ألبسوا التمثيل لباس التفرّج،
وأظهروا في محلاّت التفرّج العمومية لأنظار العامّ والخاص أُموراً سياسية
مهمة؛ لاستجلاب القلوب، وقليلاً قليلاً أصابوا هدفين بسهم واحد: تفريح
الطبائع، وجلب قلوب العامّة في الأُمور السياسية.
فرقة الشيعة حصلت من
هذه النكتة على فائدة تامّة، فألبست ذلك لباس المذهب... وعلى كلّ حال
فالتأثير الذي يلزم أن يحصل على قلوب العامّة والخاصّة في إقامة العزاء
والشبيه قد حصل..
من جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصلة، وعلى المنابر المصائب التي وردت على رؤساء دينهم، والمظالم التي وردت على الحسين..
ومع
تلك الأحاديث المشوّقة إلى البكاء على مصائب آل الرسول، فتمثيل تلك
المصائب للأنظار أيضاً له تأثير عظيم، ويجعل العامّ والخاص من هذه الفرقة
راسخ العقيدة فوق التصوّر..
هذه الفرقة تعمل الشبيه بأقسام مختلفة،
فتارة في مجالس مخصوصة، ومقامات معيّنة، وحيث إنّه في أمثال هذه المجالس
المخصوصة والمقامات المعيّنة يكون اشتراك الفرق الأُخرى معهم أقلّ، أوجدوا
تمثيلاً بوضع خاصّ، فعملوا الشبيه في الأزقّة والأسواق، وداروا به بين جميع
الفرق، وبهذا السبب تتأثر قلوب جميع الفرق، منهم ومن غيرهم، بذلك الأثر
الذي يجب أن يحصل من التمثيل، ولم يزل هذا العمل شيئاً فشيئاً يورث توجّه
العامّ والخاص إليه، حتّى أنّ بعض الفرق الإسلامية الأُخرى وبعض الهنود
قلّدوا الشيعة فيه، واشتركوا معهم في ذلك(56).
وأخيراً حسبُنا ما قاله الأئمّة(عليهم السلام) في إحياء أمرهم والتذكير
بمصابهم، ولا يضيرنا قول عائب خائب؛ فإنّ لكلّ امرئ ما نوى، وإنّما الأعمال
بالنيات(57)، بشرط تنزيه تلك الأعمال عمّا يشينها من أقوال وأفعال، ولا نترك فرصة لمن استزلّهم الشيطان فيرمونها بالفرية والبهتان، (( رَبَّنَا لَا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ )) (آل عمران:8).
ودمتم في رعاية الله