SHIA-NEWS.COM شیعة نیوز: ما زلت اتذكر كل تفاصيل تلك الاحداث، وكيف لي ان انساها، و”من يستطيع ان يوقف النزيف في ذاكرة المحكوم بالإعدام قبل الموت؟” كما قال الشاعر عبد الوهاب البياتي في إحدي قصائده.
"احداث هذه القصة ابتدأت عند الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الخميس المصادف العاشر من نيسان للعام 2003. امطرونا بزخات من الرصاص الساخن، كان الرصاص اللماع يرتطم بالجدار والارضية الرخامية، فيقدح شرارا، ثم يعود بهدوء ليصيب جسد احدنا فنشعر بحرارته وهو ينطفئ في جلودنا. كنت هناك.. لقد وثقوا يدي خلف ظهري، في المرة الاولي اوقفونا عند الجدار لاعدامنا، ما زلت استمع لصوت عتلة التهيؤ للاطلاق في رشاشة الكلاشنيكوف تسحب من مأمنها، ولم يتبق سوي الضغط بدم بارد علي الزناد، بينما كان احدهم ينادي: اقتلوهم..اقتلوهم ماذا تنتظرون؟ قبل ان تتغير خططهم.
اراد الخوئي الحديث عبر مكبر الصوت مع جموع الناس في الحضرة لكننا اكتشفنا ان هناك من قطع أسلاك مكبرات الصوت المنتشرة في ارجاء الصحن كي لا يتيح للخوئي بالتحدث مع الزوار، وهذا يعني ان هناك من بين المقربين للخوئي ـ الذين كان لديهم علم مسبق ببرنامجه منذ امس، والذي كان يتضمن الحديث مع الزوار عبر مكبرات الصوت في الصحن ـ من قام بإطلاع جماعة الصدر لقطع الاسلاك مقدماً.
هناك من أبناء النجف، خاصة سعد الخرسان وغيره، وبعضا ممن كانوا يحيطون بالخوئي، قد تأكدوا من خطورة الموقف، لهذا حثوا الخوئي والمجموعة علي ترك المكان فورا لأن ما سيحدث لا تحمد عقباه، وفي حالات كهذه يجب التصرف بسرعة من دون الحاجة الي النقاش او العناد او الاختلاف. اشتدت الهتافات وتقدم حشد الغوغاء رافعين السيوف والسكاكين و(القامات) وهي أسلحة تشابه السيوف لكنها اكثر قوة وحدة، نحو نوافذ المكتب، مطالبين بإعدام الرفيعي في باحة الحضرة وأمام الناس. اقترحنا علي الخوئي ترك المكان، لكن الحشود كانت قد احاطت بالمكتب من كل جهة، فقال "من يريد ان يخرج فليفعل”، وبالفعل خرج عدد كبير ممن كانوا يرافقون الخوئي، وبقينا خمسة اشخاص معه، اضافة الي حيدر الرفيعي وبعض خدم الحضرة.
حاول الخوئي التحدث لجموع الغوغاء قائلا لهم: "ان الرفيعي مسلم وشيعي كيف تريدون قتله وهو في حضرة الامام علي؟” ثم ان الرفيعي كان في صحبته وعليه ان يحافظ علي حياته، ولم يدر في ذهن الخوئي ان الأمر سيتجاوز الهتافات، حتي تحطمت النوافذ وجرح البعض بشظايا الزجاج وقارب الغوغاء من الدخول علينا.
السكين قرب الرقبة
كنا نقرأ علامات الشر المتطاير من عيون الغوغاء ورغبتهم المعلنة بالقتل وتعطشهم للدم وهم ينادون "اقتلوهم، اقتلوهم”، وهذا ما يفند حجة الغوغاء في انهم كانوا يريدون الرفيعي فقط، بل كانوا قد خططوا مسبقا لقتل الخوئي ومن معه، بدليل انهم هيأوا انواعا مختلفة من اسلحة الرشاشات الثقيلة والقنابل اليدوية وقاذفات (آر بي جي 7) التي انهالوا بها علينا بلا سابق انذار، مع ان الاعراف تحرِّم حمل الاسلحة الي الاماكن المقدسة وخاصة مرقد الامام علي. كان هناك احد اتباع الصدر، وهو رجل ضعيف وقميء، يتطاير الشرر من عينيه، يرتدي دشداشة سوداء ويضع عمامة سوداء كالحة مائلة للاصفرار علي رأسه، يمسك بالشباك وكأنه طائر الخفاش (الوطواط) حاملا سكينا طويلة يحاول ان يصل بها الي رقبة الخوئي، كنت اصور كل هذه المشاهد وأرصد أكثر من غيري ومن خلال عدسة الكاميرا الاحداث بدقة، وعندما شاهدت سكين ذلك الخفاش تكاد تصل الي رقبة الخوئي، الذي كان يتحدث مع الغوغاء بلطف قائلا لهم: "صلوا علي محمد.. صلوا علي النبي” بدون ان ينطق احد منهم بالصلوات التي تعتبر واجبة علي المؤمنين، سحبت الخوئي من الخلف، فقد كنت اصور من وراء كتفه الايسر ، عند ذاك انتبه للسكين وقد صدم، فقال للخفاش "شدتسوي ولك اتريد تقتلني في حضرة أمير المؤمنين؟” فرد عليه ذلك القميء "أقتلك وأقتل اهلك بعد وكلكم ميتين اليوم”،
خلال ذلك تحطم المزيد من الزجاج مما اسفر عن جرح أحد الحاضرين في عينه (تكفل جواد الخوئي فيما بعد بمعالجته بأحد مستشفيات عمان)، كما وصلت القامات والسيوف قريبا من وجوهنا في حركة اندفع فيها الغوغاء الي المكتب مثل موجة قوية رافقتها اطلاقات نارية من رشاش كلاشنيكوف لدعم تقدم هذه الموجة وتشجيع الغوغاء بالاندفاع أكثر وطمأنتهم ان هناك قوة داعمة لهم بالرشاشات من جهة، وتحطيم معنوياتنا ودفعنا الي الاستسلام السريع من جهة ثانية. ادرك الخوئي عند ذاك حقيقة خطورة الموقف ومع ذلك تمسك بعدم تسليم حيدر الرفيعي، الذي كان يطالب به المسلحون، بينما ادركنا نحن ان نهاية مشوارنا ستكون هنا وعلي ايدي جموع الدهماء هذه. بقينا، الخوئي وماهر الياسري وأحد اقارب الخفاجي، في الصالة بينما اختبأ كل من الرفيعي وصلاح بلال واثنين من خدم الحضرة، بينهم احد اقارب الخرسان في الحمام، كان الحمام مزدحما في الحقيقة، وانا لا ألومهم علي ذلك فوجودهم في الصالة من غير سلاح يعني تعريض حياتهم للقتل بلا طائل، ومجرد بقائهم يعني شجاعة موقفهم ودعمهم للخوئي حتي اللحظات الاخيرة.
اما حميد التميمي الشاب القادم من اميركا، بعد ان باع هناك محطة تعبئة وقود صغيرة كانت تعيله واسرته وجاء بالمبلغ ليشتري لعائلته قطعة أرض زراعية، فقد كان يقف في منطقة محايدة بين الصالة والحمام كونه لم يكن يحمل اي قطعة سلاح ووجوده في الصالة كان يعني تعريض حياته للموت المجاني. قلت اننا لم نكن جاهزين لمثل ذلك الموقف الصعب خاصة بالنسبة للياسري الذي لم يخدم في الجيش ولم يتعرض ربما لمثل تلك المواقف، وكذلك الخوئي. اتخذت انا من عامود (دنكة) ومن المنطقة المؤدية الي الحمام مقابل باب جانبي صغير منطقة حماية لي، بينما كان الخوئي ما يزال وسط الصالة والياسري يقف بمواجهة الشباك مباشرة عند يمين الصالة وقريب الخفاجي حاميا نفسه عند يسار الصالة قرب الباب الرئيسي للكليدارية.. هذا يعني في الواقع أن لا أحد كان محمي من الرصاص، اذ اكتشفت خطورة المكان الذي انا فيه عندما خرقت بعض الرصاصات الباب الصغير في محاولة لفتحه للدخول والاجهاز علينا.
كان الخوئي مصدوما، متفاجئا، حزينا، منفعلا، لا يدري ما عليه فعله، وهو ينادي: "الله اكبر شيعة يقتلون شيعة في مرقد أمير المؤمنين.. الله اكبر، نحن مسلمون يا ناس” لكن صيحاته كانت تضيع وسط أزيز الرصاص. المواجهة الحقيقية الاولي مع الموت.. الضربة الغادرة الاولي.. جاءت عبارة عن شريط من الرصاص الذي أصاب الياسري بمثانته.. علي بعد مليمترات من الدرع الواقي. فجأة صاح ماهر بلهجته الجنوبية التي ما تزال تتسلل، بين حين وآخر، ذاكرتي السمعية "أتصوبت سيد”.. رددت كل جدران الضريح وأرجاء النجف والديوانية، وكل نخلة وشجرة ونهر وعشبة، صدي صوت الياسري، حتي أيقنت ان الامام علي سمع صدي جرح حفيده السيد الياسري ماهر، الشاب الطيب البريء الذي نذر نفسه لخدمة العراقيين.. ترك في مدينة ديترويت الامريكية محله الذي كان يبيع فيه قطع غيار سيارات، وسيارته الحديثة، ودراجته النارية التي كان يحدثني عنها ..”أتصوبت سيد”، وطارت عيناه مثل عصفورين عطِشَين يبحثان عن ماء يطفئ حرارة الجرح الساخن. أخذنا علي حين غرة.. ماهر يتلوي فوق الارض مثل حمامة نصف مذبوحة، وعيوننا، وضمائرنا، لا تصدق ما تري وما تحس.
رفع الخوئي عمامته السوداء التي تحمل تاريخ أهله وشعائرهم ورماها ارضا وغرق في الدموع وصاح "الله أكبر قتلتم سيد شاب.. حرام عليكم ما يجري.. لا الله ولا نبيه ولا أئمته يرضون بهذا.. كيف ستواجهون أمير المؤمنين وانتم تقتلون حفيده”.
كان منحنيا علي ماهر طالبا اخراجه للعلاج حتي لا يموت "أسألكم بأمير المؤمنين علي بن ابي طالب نريد إخراج هذا الشاب لإنقاذ حياته، اسمحوا لنا بنقله للمستشفي وافعلوا ما تريدون”.. ذكرني صوته المتهدج بآخر محرم امضيناه في لندن، عندما جلس صباح يوم العاشر من محرم علي منبر القارئ وهو يفتتح قراءة مقتل الحسين والدموع تغسل لحيته الملونة بالشيب رغم صغر عمره (عندما قتل السيد عبد المجيد الخوئي في العاشر من نيسان 2003 لم يكن قد أكمل الاربعين من عمره). ضاع صراخ الخوئي في فراغ أثثه صوت الرصاص.. تناول الخوئي الرشاش بصعوبة من يد الياسري الذي كان ينزف بغزارة، ادركنا ان لا فائدة من طلب النجدة للياسري الجريح. كانت هناك أريكة (قنفة) قرب باب الكليدارية، قلبها الخوئي وجعلها بمثابة الموضع وراح يرمي رصاصة إثر أخري في الفراغ وقال لنا "ارموا مفرد كي لا ينفد الرصاص وارموا في الهواء كي لا تصيبوا أحدا”، فكرت مع نفسي وقلت: يا لقلبك يا الخوئي. لقد قتل هؤلاء الغوغاء لتوهم الياسري ويريدون قتلنا جميعا وانت تخشي ان نصيب احدهم؟ ثم كيف سنصيبهم وهم يتموضعون في الأواوين بعيدا عنا وخارج منطقة رصدنا.
كان تبادل اطلاق نار غير متكافئ، فقد كان عددهم يربو علي المائتين، وهم يتوفرون علي اسلحة متطورة، وكان عدد العتاد الذي معنا محدودا للغاية، لهذا اقترح علينا لخوئي التقشف في استخدامه، فكانت تنطلق من جانبنا رصاصة لنستقبل مائة رصاصة. كان لا بد من الدفاع عن انفسنا، كنا نحاول منع الخوئي من الحركة كي لا يسهل قتله، ونحن في غرفة لا تزيد مساحتها عن 5 في 6 امتار، ادركت اننا مقتولون لا محالة، وكنت اتنقل هنا وهناك للدفاع عن الخوئي الذي صرخ بي لاكثر من مرة ان اترك المكان واحتمي مع الاخرين في الحمام فرفضت، ليس بدافع البطولة ولكن الموقف كان يحتم علينا القتال حتي آخر رصاصة. اندفع الغوغاء نحو باب جانبي للمكتب محاولين اختراقه، رفعنا أريكتين (كنبتين) وجهازا للتبريد واسندناها خلف الباب لإيقاف الهجوم، كما اطلقنا الرصاص من خلال الباب لابعاد الغوغاء، لكن قسما منهم هاجمنا من الباب الصغير الذي كنت اقف قربه من الداخل، كاد الباب يتحطم فوق رؤوسنا، فاطلقت رصاصتين باتجاهها لابعادهم وإيهامهم باننا نملك الكثير من الاسلحة.
كنا نناور بقليل من الرصاص، وكان الخوئي يرمي الرصاص ويصرخ بوجوه من يحاول التقرب من الباب "ارجع ولك.. ارجع”، كان صوته قويا ومهيبا يجبر الاخرين علي التقهقر. دخل الياسري مرحلة الاحتضار لكثرة ما نزف من دم، نظر الي الخوئي وقال له متوسلا "سيد بروح جدك ارميني بطلقة حتي أموت ما أريد اتعذب”، ثم وجه نظراته نحوي وكرر سؤاله طالبا مني ان اضع في رأسه رصاصة الرحمة، كنا نغرق بالبكاء ونحن نحاول الدفاع عن انفسنا، كيف لك ان تطلب مني انا ان اوجه رصاصة نحوك يا ماهر؟ انا الذي لم أجرؤ علي ذبح دجاجة او الدوس علي نملة، هل لي ان اقتل من شاركني اصعب تفاصيل ايامنا. سحب التميمي، حميد، ماهر الي منطقة شبه آمنة قرب الحمام وراح يسقيه الماء ويقرأ آيات من القرآن قرب رأسه حتي غادرت روحه جسده، كان آخر ما شاهدته علي وجهه الذي مال للاصفرار ثمة زبد ابيض فوق شفتيه.
شرار الرصاص
بعد اكثر من ساعة ونصف الساعة لم يَسُد الهدوء خلالها ولا للحظة وخاصة من جانبهم، دخلت انواع جديدة من الاسلحة، عرفت فيما بعد انها نقلت من مدرسة القوام الدينية الكائنة قبالة المقام العلوي، وسمعنا اصواتا تبشر بمجيء مقتدي الصدر، وتفاءل احد الخدم بأن مجيء مقتدي سوف يحل المشكلة، لكننا فوجئنا بعدها بشراسة الهجوم، وباستخدام القنابل اليدوية. وعندما تاكدنا بان نهايتنا اقتربت اقترح احد خدم الحضرة او شخص آخر علي حيدر الرفيعي بتسليم نفسه لهم، لكن الخوئي رفض هذا الاقتراح وقال "انا من اصطحبته الي هنا، كيف اسلمه لهؤلاء الغوغاء”. كانت الرصاصة، وخاصة من رشاش (بي كي سي) التي يزيد طولها عن 12 سنتيمترا، لا اعرف طولها بالضبط، تدخل الي الصالة فتصطدم بالجدار وتعود، وهذا يعني ان هناك فرصتين للاصابة، مرة عندما تدخل الرصاصة قوية وساخنة وبريق لمعانها يلتصق بنظراتنا، وأخري عندما تصطدم بالجدار فتحدث شحنة من الشرارات وتعود ربما لتنفذ في جسد احدنا او ترتطم بالارض. جرح جبار الخرسان برصاصة باردة في احد ذراعيه واصطبغت دشداشته البيضاء بالدم، كان جبار الخرسان احد خدم الامام، او ربما كان حضوره بسبب وجود الخوئي. بعد ما يقرب من ساعة وخمس واربعين دقيقة من المشاغلة، صرخ الخوئي "لقد اصابوني”،
كان كف يده الايسر ينزف دماً، إذ كان قد اقترب احد الغوغاء من الباب ورمي قنبلة يدوية انفجرت قرب الخوئي فمزقت ثلاثة من اصابعه. هرعنا لسحبه الي الداخل واسرعت لربط كف يده بقطعة قماش مزقتها من قميص كان متروكا هناك، ولففت كفه بقطعة منشفة الحمام، ما ادي الي ان تصطبغ ملابسي بدمه. كان عتادنا قد انتهي وخاصة عتاد المسدس الذي كان معي ورشاشة الخوئي، ولم تبق سوي عدة اطلاقات مع احد المرافقين. هدأ اطلاق الرصاص من جانبهم اعتقادا منهم ان القنبلة قضت علينا او في الاقل قد قتلت الخوئي، وكان ذلك هدفهم الحقيقي. تطوع الخرسان الذي كان الدم يلطخ دشداشته بالخروج وهو يحمل قطعة قماش بيضاء والقرآن الكريم اعلانا باستسلامنا جميعا. توقف اطلاق النار، وهجم الغوغاء علينا، حاملين اسلحتهم ليتأكدوا من اننا لا نملك السلاح. دخل علينا رياض النوري، هكذا عرَّف نفسه بوصفه مدير مكتب مقتدي الصدر، وهو يتحدث معنا عبر مكبر للصوت يدوي يعمل بواسطة البطارية (وكان ذا لونين، احمر وابيض)، ولا ادري لماذا كان يتحاور معنا عبر مكبر الصوت مع ان المسافة بيننا وبينه اقل من نصف متر؟ وتعرف علي الخوئي الذي عاتبه قائلا "هل وصلت الامور لان يتقاتل الشيعة في مقام الامام علي؟” فأجابه النوري "لا تقل اية كلمة، انتم الان اسري لدي السيد مقتدي”.. استغربت من وصفنا كأسري، كانت حشودهم تتوافد علينا وهم ينادون بضرورة قتلنا والتخلص منا، وبالفعل حاول احدهم اطلاق النار علينا لكن أحدهم ردعه قائلا: "لنأخذهم الي السيد مقتدي وهو يقرر مصيرهم في محكمة شرعية، ثم هم بين ايدينا الآن اين سيذهبون”.
كان هناك شاب يرتدي ملابس رياضية بدا اكثرهم حماسا لقتلنا، وآخر يرتدي ثوبا اسود حاملا رشاش كلاشنيكوف كان هو الآخر جاهزا للانقضاض علينا. قال الشاب ذو الملابس الرياضية: "انت كنت امبراطوراً في لندن لماذا جئت الي هنا؟ ماذا تريد ان تفعله في النجف؟ انت لا تعرف كم تغير العراقيون طول هذه السنوات، ما لك والنجف؟”. ثم قام بتفتيشنا بحجة البحث عن السلاح، لكنه كان يبحث عن محافظنا، واول ما سرقه أمام اعيننا كان حفنة من الدولارات، تصل الي نحو خمسة آلاف دولار اميركي، وبعض العملات العراقية، التي كانت بحوزة الخوئي، ثم فتش حقيبة حميد التميمي فوجد في حوزته اكثر من 13 الف دولار (حسب رواية حميد لي فيما بعد)، ثم سحب حقيبتي التي كانت تضم آلة تصوير ديجتال (رقمية) واخري فيديو جديدتين وهاتف نوكيا جوالاً (ذا الكاميرا) واكثر من خمسة الاف دولار، وخمسمائة جنيه استرليني، كنت احتفظ بها لمساعدة الاهل والاصدقاء في العراق، جمع كل ذلك (وكان ثروة بالنسبة له) وهواتف ثريا، ووضعها في حقيبة حميد وقال هذه غنائم وسوف تستلمونها من مكتب السيد مقتدي الصدر”.
تطوع احد النجفيين بأن يغير ملابسه بملابس الخوئي كي لا يتعرف من هم في الخارج علي الخوئي فيعتدون عليه، وبالفعل خلع دشداشته البيضاء ، او قميصه، لا اتذكر تلك التفاصيل بالضبط، وألبسها الخوئي الذي بدا عليه التعب والإعياء بسبب نزيف الدم وبسبب الموقف الذي كنا فيه، اذ ادرك اننا أموات لا محالة، كنت أقرأ في عينيه أسفا عميقا للموقف الذي وصلنا اليه وكأنه يعتذر عما آلت إليه الاحداث. لم يوافق النوري وجماعته علي تغيير ملابس الخوئي بل اكتفوا بإجباره علي نزع الدرع الحامي من الرصاص. قلت لهم: "اذا كنتم لا تريدون قتله فلماذا تنزعون عنه الدرع؟” فصاح بي احدهم بان اغلق فمي "هذا مو شغلك”، عندها ادركت انهم قرروا قتلنا علي ايدي الغوغاء وبتخطيط مسبق عندما نكون في الخارج. كانت الروائح تختلط ببعضها.. روائح الاجساد المتعرقة برائحة البارود الذي عطر المكان، مع رائحة الخوف من الآتي، وقبل هذا كله رائحة الموت التي انبعثت من جسد الياسري معلنة مصيرنا المحقق بعد دقائق، إضافة الي رائحة الشر والإصرار علي تلطيخ اياديهم القذرة بدمنا.
عندما حضر طلبة الحوزة، وكان عددهم يقارب المائة، أمروا بتوثيق ايادينا خلف ظهورنا وعصب عيوننا باعتبارنا أسري، استنكرتُ التسمية وقلت لهم "أسري من؟ ولماذا توثق ايادينا واعيننا اذا كنتم تريدون الحفاظ علي حياتنا حقا؟ نحن جئنا لمساعدتكم فكيف تتعاملون معنا كأسري؟”. لم يكونوا قد تهيأوا لتوثيق ايدينا، لذلك استخدموا اسلاك الهاتف بعد ان انتزعوها من الجدران لشد ايدينا وتخلوا، او تغاضوا عن فكرة عصب اعيننا. قال التميمي، وروايته تتطابق مع ما رواه صلاح بلال علي رؤوس الشهود من افراد المجموعة، "تم اقتيادنا حتي مسكن مقتدي الصدر، المسكن الذي كان يتخذه والده محمد صادق صادق الصدر مكتبا ومسكنا له والذي يقع في (عكد الحمير)، و(العكد) تعني باللهجة النجفية الزقاق، وهذا البيت هو وقف الملاية امينة وسيطر عليه الصدر الوالد، هناك عند باب بيت الصدر حيث كان من المفترض ان يجري مقتدي محكمة شرعية لنا، او يستقبلنا كأسري، ويعيد لنا اموالنا وحاجياتنا التي نهبت منا في الكليدارية باعتبارها غنائم سيتم الاحتفاظ بها في مكتب مقتدي.
لكن ما حدث هو عند وصول الخوئي وبلال والتميمي الي باب بيت الصدر وبينما كان الخوئي ما يزال يتلقي الطعنات لكنه كان حيا وامامه فرصة كبيرة لانقاذ حياته، خرج احد اتباع مقتدى الصدر من البيت وقال للغوغاء: "السيد مقتدى يقول اقتلوا المجرمين في الخارج ولا تدخلوهم بيتي”.
كان ذلك أمرا واضحا وصريحا بالقتل يكشف ان العملية برمتها، منذ الهجوم علينا في الكليدارية، كان مخططا لها وبأمر مباشر من الصدر بقتلنا جميعا هناك. وحسبما نقل لي القاضي رائد جوحي، الذي حقق في القضية عندما كان قاضي تحقيق محكمة النجف، وحسب اعترافات الجناة فإن الخطة التي أمر الصدر بتنفيذها كانت تقضي بقتلنا جميعا في الكليدارية من غير السماح بنجاة اي منا، لكن تدخلات بعض الاطراف في الكليدارية ادت الي تغيير في الخطة يقضي بإخراجنا وقتلنا في الباحة من قبل اتباع الصدر. عند ذاك، وحسب التميمي، فان الغوغاء هجموا علي الخوئي، وكان قريبا منهم محل لتصليح مكائن خياطة ماركة "سنجر” يملكه احد اصدقاء الخوئي، واعتقد ان اسمه الحاج معين، وكنا قد زرناه في بيته قبل يومين، الخوئي والياسري وانا، لتحيته والسؤال عن صحته بعد ان كان قد تعرض لاطلاق نار، حاول الحاج معين إنقاذ الخوئي حيث ادخله مع التميمي وبلال الي محله لكن الدهماء هاجموا المحل وكسروا واجهته الزجاجية وسحبوا الخوئي وقتلوه في الخارج بينما اختبأ التميمي وبلال في مخزن صغير للعدد والادوات الاحتياطية داخل المحل، فيما كان بعض الدهماء يصرخون متسائلين "وين الباقين”.
النهاية