SHIA-NEWS.COM شیعة نیوز:
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
محاضرة إلقيت في المركز الإسلامي - لندن
بتاريخ 7 رجب 1434هـ - 18 أيار 2013م
توطئة:
يتبنى الفكر السلفي موقفاً وضعياً من العقيدة الاسلامية بإعتبارها مجرد أيديولوجيا من وجهة نظره يخضعها لمنهجه ساعة يشاء وبالتالي فهو يتصرف بالتاريخ الاسلامي وكأنه تاريخ حصري محدود بمجموعة بشرية تحتكر العقدية والشريعة وحركة التاريخ، وللرد على هذه الإطروحة السلبية لابد أن ندرك أن ثمة إشكالية تطرح وفقاً لمنظور البحث الابستمولوجي، تقول: إن الايديولجيات المحدثة جعلت تاريخ الامة كموضوع يتحرك في مساحة وخدمة المنهج المعد سلفاً، في حين أن البحث العلمي يقول بعكس ذلك تماماً، فالمنهج هو الذي يخضع للموضوع، ويتغير تبعاً لمتغيراته.
هذا الموقف السلفي يتجاهل قضية معرفية كنا شرحنا بعض طروحاتها والتي تقول: أن الأيديولجيا التي هي من صنع الإنسان يمكن أن تقف عائقاً أمام منظور الإدراك الواعي لحقيقة التاريخ ولتطور مناهج البحث العلمي.
فحين يصبح التاريخ مجرد أنهارٌ من الدماءِ وفتوحاتٍ، وحين يصير التاريخ الاسلامي محتكراً بالموقف السلفي، ولا يمثله إلا جماعات تقدم التاريخ عبر اللحى الشعثاء والسراويل القصيرة وتتنكر للرؤيا الحضارية التي نادت بها الرسالات السماوية، وحين تصير الشريعة مجرد قائمة طويلة من الحدود العقابية على حساب منظومة العلاقات التي نادت بها الرسالة السماوية، فإن الأمة بالتأكيد ستنحرف عن غائياتها، وتتجاهل عناصر صيرورتها في التكامل المعرفي.
لاشك أن العقيدة الإسلامية ليست أيديولوجيا وضعية لإعتبارات مصدرها الإلهي، ولكنها تحمل في نسيجها تلك الرؤية الايديولوجية والتي تكون حاضرة بوضوح قوي حين تغيب عناصر التقوى عند الإنسان، ففي تلك اللحظة تظهر الايديولوجيا كموقف وضعي يبرر للإنسان المنحرف أفعاله السلبية فيعرضها بإعتبارها مثل عليا.
في هذه الدراسة سيكون الانسان هو المعبر عن الموقف التاريخي، كما كان هو الأداة الفاعلة في صناعة التاريخ.
حِجر بن عدي في الموقف التاريخي:
إن شخصية عميقة ومتجذرة في الأصاله الاسلامية كحجر بن عدي الكندي (1) لم تكن يوماً خارج الموقف التاريخي، فهذا الذي عرف براهب الصحابة كان منغمساً في ذات الله، كما كان حاضراً في المجتمع الإسلامي كشخصية تبنت الإلتزام بالولاء للرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، فحين يكون حجر من حواريي أمير المؤمنين عليه السلام، فذلك يعني أنه حقق العلاقة بين الإنسان والعقيدة في أرقى مستوياتها.
من جانب آخر فهذا الراهب يظهر في ذات الوقت كقائد عسكري ليذكرنا بأستاذه الامام علي (ع) مؤكداً أن موقفه من العقيدة موقف تأصيلي منذ أن قال الرسول الخاتم (ص) في غدير خم: " من كنت مولاه فعلي مولاه ". بل لعله أسبق من ذلك لانه كان أكثر فهماً في إدراك طبيعة العلاقة بين الرسول الخاتم (ص) ووصيه الإمام علي (ع).
خلال مسيرة حياته إستطاع حجر بن عدي ان يكون حاضراً في حركة التاريخ الإسلامي منذ عصر الرسالة الأول وحتى حين صار الإنحراف سمة بارزة بعد تغليب الايديولوجيا على العقيدة الاسلامية، فوقف ضد الانحراف الفكري والعقائدي، وحين حدث ذلك فان شهادته (رض) جاءت لتكرس مواقفه في تجسيد العلاقة بين الشريعة وغائية التاريخ.
لا شك ان الوعي بحقيقة الموقف من أهل البيت عليهم السلام إنما هو وعي تأصيلي في ذهنية حجر بن عدي، ومن هنا فهو لم يتردد في إتخاذ قراره بالانظام إلى تلك النخبة من حواريي أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كان يدرك طينة حجر وقدرته الفائقة، فحصل التوافق بين فكر الامام علي (ع) وبين روحانية حجر. فهؤلاء الحواريين يتمتعون بمستويات عالية من الارتقاء الذاتي، وهم نسيج خاص من البشر كرسوا ذواتهم لله والولاء لأولياءه، فكانوا من خلص أوليائه، إذ كان لكل منهم خصوصياته، ومميزاته الفكرية والنفسية التي أهلتهم ليحتلوا هذه المكانة الرفيعة في التاريخ الإنساني.
حجر بن عدي، كعمار بن ياسر وأبو ذر والمقداد وسلمان وميثم وعمرو بن الحمق الخزاعي، فهؤلاء لم يقفوا في إدراكهم لعلاقة الأمة بحركة التاريخ عند حدود الأفكار المجردة، بل ربطوا موقفهم بظواهر واقعية تعيشها الأمة، هو وهؤلاء يدركون أن العقيدة الإسلامية قوة للتحرر من التخلف والجاهلية، ونحن نرى أن للتخلف والجاهلية معان خاصة في مدرسة الفلسفة الفكرية للإمام علي عليه السلام التي نرى حجر من كبار أساتذتها. كما هو من طلابها في ذات الوقت.
ومن هنا لم يكن مقتل حجر بن عدي عبثاً بل جاء ليؤكد موقفه في عملية الصراع، فحجر ككثير من هؤلاء المصلحين الكبار يجتازون المسافة كلها ليصلوا للحظة التضحية بالنفس.
أزمة الفكر السلفي في عناصر نهاية التاريخ:
لم يكن تهديم ضريح حجر بن عدي ومحاولة نبش قبره سابقة في التاريخ الاسلامي فقد سبق ذلك الكثير من الحوادث المماثلة في العلاقة بين همجية الفكر السلفي الرجعي وحضارة الاصالة الاسلامية كالهجوم على كربلاء سنة (1216هـ)، (2) وأيضا كتهديم بقيع الغرقد سنة ( 1344هـ)، (3) كما إنها ليست سابقة في التاريخ العراقي الحديث والمعاصر، حيث هناك تفجيرات سامراء في سنتي 2006 و2007م (4).
لا شك أن الفكر السلفي الرجعي حمل بذور هذه الأزمة منذ المراحل الأولى لظهوره في التاريخ الحديث معتمدا على الرؤية الماضوية في إيقاع التاريخ على الواقع. وهو كأيديولوجيا وضعية لا علاقة لها بالإسلام، ولا تملك موقفاً حضاريا في العلاقة بين الأمة والتاريخ، وأنما حاولت فرض موقفها من خلال خلق العديد من الازمات، والإنغماس الكلي فيها لتقول بعد ذلك أن هذه المواقف السلبية إنما تمثل حقيقة التاريخ الإسلامي، وهو تاريخ مليء بالصراعات وفق الموقف السلفي ولا يعتني بالمنهج الحضاري للإنسان.
أثبتنا في دراسات عديدة كيف سجلت العقود العشرين الاخيرة وصول الفكر السلفي إلى طريق مسدود في قضية صراعة مع المذاهب الإسلامية وخاصة مذهب أهل البيت عليهم السلام، بسبب فشله المستمر في تبرير سلبيات حركة التاريخ، ومحاولة ربط المنهج الوضعي المنحط بالعقيدة الاسلامية ذات الرؤية الشمولية، وتكاثر سلبيات مرجعياته وفتاواهم اللاواقعية، كل ذلك تسبب في تحويل عملية الصراع من التكفير، إلى القتل، وتهديم القبور والسعي لمحو التاريخ الاسلامي وتراثه وتراث أهل البيت عليهم السلام، وتراث الصحابة من الوجود. وهذه حالة إنتكاسية للفكر السلفي لانه عايشها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، في هجومة السابق على كربلاء وتهديم بقيع الغرقد وغيرها. وكان أتباع عبد الوهاب يدركون أنهم لا يستطيعون تغيير عقيدة المسلمين، وربما فكروا في التراجع بعد خسائرهم الكبيرة، لكن المخابرات البريطانية كانت تدعم الفكر السلفي لغايات تدمير الاسلام من الداخل مستغلة هذه النزعة الدموية المتأصلة في عقيدة الفكر السلفي الرجعي.
وجد أتباع الفكر السلفي الرجعي إن تكفيرهم لعقائد ونظريات المدارس الاخرى لم يعد كافياً لأشباع رؤيتهم المنحطة، فحينما لا يكون للتكفير أثر مادي لانه يتعلق بالفكر والنظريات والعقائد، فان القتل والتفجير ونبش القبور سيكون السبيل الاكثر إيلاماً من وجهة نظر أتباع الفكر السلفي الرجعي، وبالتالي هم يمعنون في ذلك متبعين خطى السلف في قتل صحابة رسول الله صلوات الله عليه وآله.
من هنا فإن تهديم قبر حجر إنما هي محاولة لفك الإرتباط بين الواقع والتاريخ الحضاري، لان الفكر السلفي لا يفهم من التاريخ إلا عملية الصراع مؤكداً على عدم إنتمائه لحركة التاريخ الحضاري، ولهذا بقي محتكرا للماضي بكل سلبياته.
وهنا يمكن أن نطرح تساؤلاً عقلانياً: لماذا يلجأ أتباع الفكر السلفي الرجعي إلى القتل ونبش القبور بدلا من الحوار؟ ألم يقل الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾. (5)
يعجز الفكر السلفي عن الحوار لافتقاره لأبسط القواعد المتعارف عليها في علم الكلام، فهو لا يمتلك الادواة العلمية لذلك، كما لا يملك منهجاً أصولياً رصيناً فكتب أبن تميمة وإبن عبد الوهاب وتلامذتهم محشوة بالدعاوى القائلة بتكفير وقتل أتباع المذاهب الأخرى.
من جانب آخر يدرك أتباع الفكر السلفي انهم يعيشون عزلة قاتلة بسبب تعنتهم في تسويق هذا الفكر المنحط، وتشبثهم بالمثل الدنيا على حساب المثل العليا. وحيث منافذ الخروج من هذه الأزمة ضيقة أو معدومة لأن المجتمع الحقيقي لا يسمح لهم بالاندماج فيه، ولأنهم يرفضون الخضوع للمعادلات الإجتماعية المتزنة، فهم يلجأون لتدمير هذا المجتمع، ومناهجه الفكرية والفنية والفلسفية.
الإنسان والحضور التاريخي للأمة:
قد يبدو موقف الحضارة الإسلامية في نهاية التاريخ بإعتباره محاولة لعودة سلطة الوحي التي تمثل كمال الحضارة الإنسانية، ومطلق التطور في حضور العلاقة بين الأرض والسماء حضوراً تعايشياً يعيد للأذهان عصر الرسالة الأول.
هذا الموقف بحد ذاته هو الذي أستشهد حجر بن عدي من أجل تحقيقه. هذا الموقف هو ذات الموقف الذي حمله سلمان وأبي ذر وعمار بن ياسر والمقداد وميثم وأشباههم.
فحين ترتقي الأمة بوعيها، تصبح أكثر قدرة على تحقيق صيرورتها، وهذا يتطلب حضور الانسان الواعي في حركة التاريخ، فهذا الوجود الانساني بالاصل وجود حضاري قبل إنهيار الوعي كنتيجة لتغليب السلبي على الإيجابي.
لا شك ان مشكلة الانسان الواعي تكمن في هذا الكم السلبي من السلوك المتردي في المجتمع يقوده بعض المنحرفين والكثير من مدعي الرؤية السياسية، وقسم آخر ممن إحترفوا الدين ليس كقضية ولا كمنهج ولكن كتجارة رائجة في كل العصور.
فحين قتل قابيل أخاه هابيل كان قد أسس لمباديء الوعي السلبي ونظرية العنف في إشكالية الصراع بين السلبي والإيجابي، وهذا الفعل صار قاعدة في المنهج السلفي الرجعي. بل صار مرجعية إجرامية إستمرت طوال حركة التاريخ ولم تتمكن حتى النبوات والرسالات السماوية من إيقافها وإن تصدت لها. ولعل السبب هو غلبة السلبي على الإيجابي لكثرة فرص السلبي في الحياة.
في الخاتمة لايد من التأكيد على أن محاولات الحركة الوهابية السلفية بتدمير تراث الامة الاسلامة وعراقتها، إنما هو إنحراف عقائدي وفكري ناتج عن إنهيار مستويات الوعي في المجتمع السلفي، وغياب النظريات الحضارية عنه بسبب طبيعته التكوينية المنحطة، ومناهجة المتخلفة عن الركب الحضاري الإنساني.
.........................
1- حجر بن عدي: هو حجر بن عدي بن معوية بن جبلة الكندي: أسلم وهو صغير مع اخويه ولم تتوفر لدى المصادر التاريخية تاريخ وفاته، وكان زاهدا عابدا عارفا بالله حتى عرف براهب الصحابة لشدة عبادته، كم كان قائدا عسكريا، وهو من كبار صحابة الرسول الخاتم (ص) ومن حواريي أمير المؤمنين علي (ع)، وكان له ولاصحابة مواقف كثيرة ضد سياسات الانحرف منذ السقيفة وضد سياسة الدولة الاموية وخاصة معاوية وولاته وشهد صفين (37 هـ) مع الامام علي (ع), وبعد التحكيم وقف ضد سياسة معاوية حتى أمر معاوية بقتله هو وأصحابه في مرج عذاراء سنة (51هـ). أنظر، تاريخ دمشق: 12/212، ابن ابي الدنيا، مكارم الاخلاق:76، تاريخ الطبري: 3/135، طبقات ابن سعد: 6/217، والغارات: 2/812. وغيرها كثير من المصادر.
2- هجوم الوهابية على كربلاء في ليلة 18 ذي الحجة 1216، وقتل فيها (4500) إنسان من أهل كربلاء ومن زوارها، حيث جاء في مخطوطة الدر المنثور: " مجيء سعود الوهابي إلى العراق وأخذ بلد الحسين (ع). ونقل السيد جواد الحر العاملي في مفتاح الكرامة وهو يذكر الهجوم الثاني على كربلاء: في سنة (1223هـ) جاء الخارجي سعود في جمادي الاخرة، فأتانا ليلا فرآنا على حذر قد أحطنا بالسور، ثم قضى إلى مشهد الحسين على حين غفلة نهاراً فحاصرهم حصارا شديداً فثبتوا له خلف السور فقتل منهم وقتلوا منه ورجع خائبا ". انظر دراسات الباحث في تهديم الاثار الاسلامية ومحاضراته حول ذات الموضوع.
3- تهديم بقيع الغرقد سنة 1344هـ/1925م.
4- تفجير سامراء الاول: الاربعاء 22 شباط 2006م و التفجير الثاني الاربعاء 13 حزيران 2007م.
5- النحل: 125.
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
dr-albayati50@hotmail.co.uk
المملكة المتحدة - لندن
18 آيار 2013م
.burathanews