السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كأنّك تريد أن تقول: إنّ العزاء جزع، والجزع منهي عنه، فالعزاء منهي عنه.
وهذا الاستدلال فاسد من حيث سقوط صغراه!
وذلك:
لأنّ العزاء ومأتم الحسين(عليه السلام) هو عبارة عن: ذكر الإمام
الحسين(عليه السلام)، وذكر فضائله ومقامه، ثمّ العروج على واقعة الطفّ،
وإظهار الحزن وذرف الدموع عليه.
فإذا كان العزاء هو ذلك، فنأتي إلى مفرداته:
المفردة الأُولى: هي ذكر فضائل الحسين(عليه السلام)، والصفات المعنوية التي تحلّى بها..
وهذا
ليس فيه شيء مخالف للدين، وليس فيه نهي، بل هو أمر مشروع، وطبق الموازين
الشرعية، فافتح ترجمة أي شخص دون الحسين(عليه السلام) من كتب التراجم لدى
السُنّة والشيعة تجده يبدأ بذكر فضائل المترجم له، إن كانت له فضائل، فهذا
الذهبي في ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام) يقول: ((الإمام الشريف الكامل،
سبط رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وريحانته في الدنيا، ومحبوبه،
أبو عبد الله الحسين بن أمير المؤمنين...))(1)، ثمّ أخذ بذكر مناقبه.
المفردة الثانية: ذكر واقعة الطفّ.
فقد
ذكرها النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعليّ بن أبي طالب(عليه
السلام)، وتألّما وبكيا لذكرها، وهاك بعض الروايات الصحيحة من حيث السند
حتّى على مباني السلفية:
عن أبي أُمامة، قال: ((قال رسول الله(صلّى الله
عليه وآله وسلّم) لنسائه: (لا تُبكوا هذا الصبيّ) - يعني حسيناً - قال:
وكان يوم أُمّ سلمة، فنزل جبريل(عليه السلام) فدخل رسول الله(صلّى الله
عليه وآله وسلّم) الداخل وقال لأُمّ سلمة: (لا تدعي أحداً يدخل بيتي). فجاء
الحسين(رضي الله عنه) فلمّا نظر إلى النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في
البيت، أراد أن يدخل، فأخذته أُمّ سلمة فاحتضنته، وجعلت تناغيه وتسكّنه،
فلمّا اشتدّ في البكاء خلّت عنه، فدخل حتّى جلس في حجر النبيّ(صلّى الله
عليه وآله وسلّم)، فقال جبريل(عليه السلام): (إنّ أُمّتك ستقتل ابنك هذا).
فقال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يقتلونه وهم مؤمنون بي)؟ قال:
نعم يقتلونه، فتناول جبريل تربة، فقال: بمكان كذا وكذا، فخرج رسول
الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد احتضن حسيناً كاسف البال مهموماً...))(2). وقال الذهبي: ((وإسناده حسن))(3).
وأخرج
الطبراني بسنده - ورجاله ثقات - في (المعجم الكبير) في ترجمة الحسين(عليه
السلام): عن أُمّ سلمة، قالت: ((كان الحسن والحسين (رضي الله عنهما) يلعبان
بين يدي النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيتي، فنزل جبريل(عليه
السلام) فقال: يا محمّد إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك. فأومأ بيده إلى
الحسين، فبكى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وضمّه إلى صدره، ثمّ
قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (وديعة عندكِ هذه التربة).
فشمّها رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال: (ويح كرب وبلاء).
قالت:
وقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يا أُمّ سلمة! إذا تحوّلت
هذه التربة دماً، فاعلمي أنّ ابني قد قتل). قال: فجعلتها أُمّ سلمة في
قارورة، ثمّ جعلت تنظر إليها كلّ يوم، وتقول: إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم
عظيم))(4). وأخرج الحديث غير الطبراني أيضاً(5).
وأخرج
عبد بن حميد: ((أنا عبد الرزّاق، أنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن
أبيه، قال: قالت أُمّ سلمة: كان النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نائماً
في بيتي، فجاء حسين يدرج، قالت: فقعدت على الباب فأمسكته مخافة أن يدخل
فيوقظه، قالت: ثمّ غفلت في شيء، فدبّ فدخل فقعد على بطنه، قالت: فسمعت نحيب
رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فجئت فقلت: يا رسول الله! والله ما
علمت به.
فقال: (إنّما جاءني جبريل(عليه السلام)، وهو على بطني قاعد، فقال لي: أتحبّه؟
فقلت: نعم.
قال: إنّ أُمّتك ستقتله، ألا أُريك التربة التي يقتل بها؟!).
قال: (فقلت: بلى).
قال: (فضرب بجناحه فأتاني بهذه التربة).
قالت: فإذا في يده تربة حمراء، وهو يبكي، ويقول: (يا ليت شعري من يقتلك بعدي؟) ))(6).
وأخرج
الطبراني بسنده - ورجاله ثقات - عن أُمّ سلمة، قالت: ((كان رسول الله(صلّى
الله عليه وآله وسلّم) جالساً ذات يوم في بيتي، فقال: (لا يدخل عليّ أحد).
فانتظرت، فدخل الحسين(رضي الله عنه)، فسمعت نشيج رسول الله(صلّى الله عليه
وآله وسلّم) يبكي، فاطّلعت فإذا حسين في حجره، والنبيّ(صلّى الله عليه
وآله وسلّم) يمسح جبينه وهو يبكي، فقلت: والله ما علمت حين دخل. فقال: (إنّ
جبريل(عليه السلام) كان معنا في البيت، فقال: تحبّه؟ قلت: أمّا من الدنيا
فنعم.
قال: إنّ أُمّتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء)، فتناول جبريل(عليه السلام) من تربتها، فأراها النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فلمّا أُحيط بحسين حين قُتل، قال: (ما اسم هذه الأرض؟) قالوا: كربلاء، قال: (صدق الله ورسوله، أرض كرب وبلاء) ))(7).
وأخرجه الهيثمي في (مجمع الزوائد)، وقال: ((رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات))(8).
المفردة الثالثة: إظهار الحزن والبكاء على الحسين(عليه السلام) وتجديد ذكراه..
فهناك كثير من الروايات التي تشير إلى:
1- أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكى وحزن على الحسين(عليه السلام) في بيوت نسائه، بل وأمام جمع من الصحابة.
2-
الأخبار الكثيرة التي تنصّ على أنّ جبرائيل(عليه السلام) أخبر النبيّ(صلّى
الله عليه وآله وسلّم) بأنّ أُمّته ستقتل الحسين(عليه السلام)، وجاءه
بتربة من أرض كربلاء، وأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) شمّها
واستنشق منها رائحة دم ابنه الحسين الشهيد(9).
3- أنّ
النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعطى لبعض زوجاته تربة الحسين(عليه
السلام)، وأنّها عرفت مقتله من تحوّل لون تلك التربة إلى (دم عبيطاً) في
يوم العاشر من المحرّم(10).
وعن الزهري، قال: ((قال لي عبد
الملك: أيّ واحد أنت إن أعلمتني أيّ علامة كانت يوم قتل الحسين؟ فقال: قلت:
لم تُرفع حصاة ببيت المقدس إلاّ وجد تحتها دم عبيط، فقال عبد الملك: إنّي
وإيّاك في هذا الحديث لقرينان))؛ قال الهيثمي: ((رواه الطبراني، ورجاله
ثقات)).
وعن الزهري، قال: ((ما رُفع بالشام حجر يوم قُتل الحسين بن علي إلاّ عن دم))؛ قال الهيثمي: ((رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح))(11).
وعن
أبي قبيل، قال: ((لمّا قُتل الحسين بن علي انكسفت الشمس كسفة حتّى بدت
الكواكب نصف النهار حتّى ظننّا أنّها هي))؛ قال الهيثمي: ((رواه الطبراني،
وإسناده حسن))(12).
بل نجد أوسع صور العزاء والحزن تظهر على
رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كربلاء عند قتل الإمام
الحسين(عليه السلام)، فهذا ابن عبّاس يقول: ((رأيت النبيّ(صلّى الله عليه
وآله وسلّم) في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه،
أو يتتبع فيها شيئاً، فقلت: ما هذا؟
قال: (دم الحسين وأصحابه، فلم أزل أتتبعه منذ اليوم))). قال الهيثمي: ((رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح))(13).
فإذاً
لا يوجد أيّ مانع شرعي من إقامة المأتم الحسيني، بل في إقامته أُسوة
واقتداء بالنبيّ الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ إذ هو المقيم له
والقائم عليه، كما أسلفنا من خلال الروايات الصحيحة الواردة من طرق أهل
السُنّة.
وعليه: فتسقط المقدّمة الأُولى، وهي: كون البكاء والمأتم نوع
من الجزع، ولا يبقى لها مكان في الاستدلال فضلاً عن المناقشة في الكبرى من
انّ الجزع منهيّ عنه، وذلك لِما ورد عندنا من أنّ الجزع على الحسين(عليه
السلام) جائز، كما بيّنا آنفاً في الأسئلة السابقة.
ودمتم في رعاية الله