السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وردت فيه أخبار كثيرة, بل متواترة, وهي على طوائف، منها:
الطائفة الأولى:
ما ورد أنّ البكاء
عليه يوجب غفران كلّ ذنب، كصحيح الريّان بن شبيب، عن الإمام الرضا(عليه
السلام)، في حديث: (يا بن شبيب! إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن عليّ
بن أبي طالب(عليه السلام)، فإنّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته
ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السموات السبع والأرضون
لقتله.
- إلى أن قال: - يا بن شبيب! إن بكيت على الحسين(عليه السلام)
حتـّى تصير دموعك على خدّيك، غفر الله لك كلّ ذنب أذنبته، صغيراً كان أو
كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً)(1).
وخبر الفضيل بن يسار عن
أبي عبد الله(عليه السلام): (من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح
الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر)(2).
الطائفة الثانية:
ما ورد أنّ البكاء
عليه يوجب غفران الذنوب العظام, كخبر إبراهيم بن أبي محمود, عن الرضا(عليه
السلام)، في حديث: (فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء يحطّ
الذنوب العظام)(3).
الطائفة الثالثة:
ما ورد أنّ البكاء
عليه يمنع دخول النار على الباكي، كخبر الفضيل وفضالة، عن أبي عبد
الله(عليه السلام): (من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه حرّم الله وجهه على النار)(4).
الطائفة الرابعة:
ما ورد أنّ البكاء
عليه يوجب دخول الجنّة، كخبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام):
(كان علي بن الحسين(عليهما السلام) يقول: (أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل
الحسين(عليه السلام)، حتـّى تسيل على خدّه, بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً
يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمنٍ دمعت عيناه حتـّى تسيل على خدّيه في ما
مسّنا من أذى من عدونا في الدنيا بوّأه الله منزل صدق)(5).
وخبر
محمّد بن عمارة، عن جعفر بن محمّد(عليه السلام), قال: (من دمعة عينه فينا
دمعه لدمٍ سُفك لنا، أو حقّ لنا نقصناه، أوعرضٍ انتهك لنا، أو لأحد من
شيعتنا، بوّأه الله تعالى بها في الجنّة حقباً)(6).
وخبر أبي
هارون المكفوف, قال أبو عبد الله(عليه السلام) في حديث: (ومن ذُكر الحسين
عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله, ولم يرضَ
له بدون الجنّة)(7).
الطائفة الخامسة:
ما ورد أنّ البكاء
عليه يوجب حضور الأئمّة(عليهم السلام) عند موت الباكي، كخبر مسمع بن عبد
الملك، عن أبي عبد الله(عليه السلام) في حديث: (قال لي: أفما تذكر ما صُنع
به؟ - يعني بالحسين - قلت: نعم. قال: فتجزع؟ قلت: أي واللهِ، واستعبر لذلك
حتـّى يرى أهلي أثر ذلك عليَّ، فامتنع من الطعام حتـّى يستبين ذلك في وجهي.
قال:
رحم الله دمعتك, أما إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين
يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أمّنا، أما
إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك, ووصيّتهم ملك الموت بك, وما يلقونك به
من البشارة أفضل، ولَملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الأُمّ الشفيقة
على ولدها) - إلى أن قال: - (وما بكى أحدٌ رحمةً لنا ولما لقينا إلاّ رحمه
الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه, فإذا سالت دموعه على خدّه, فلو أنّ قطرة
من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها، حتـّى لا يُوجد لها حَرّ) - إلى أن
قال: - (وما من عين بكت لنا إلاّ نعمت بالنظر إلى الكوثر، وسُقيت منه من
أحبنّا)(8).
الطائفة السادسة:
ما ورد أنّ البكاء
عليه يُسعد فاطمة سيّدة نساء العالمين(عليها السلام), كما في خبر أبي بصير،
عن أبي عبد الله(عليه السلام) في حديث: (يا أبا بصير! إذا نظرت إلى وَلَدِ
الحسين(عليه السلام) أتاني ما لا أملكه بما أُوتى إلى أبيهم وإليهم.
يا
أبا بصير! إنّ فاطمة(عليها السلام) لتبكيه وتشهق - إلى أن قال: - يا أبا
بصير! أما تحبّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة(عليها السلام)؟! فبكيت حين قالها،
فما قدرت على المنطق، وما قدرت على كلامي من البكاء)(9).
إلى
غير ذلك من الطوائف والأخبار, ويكفينا في عظمة أجر البكاء، ما ورد في خبر
معاوية بن وهب، قال: ((استأذنت على أبي عبد الله(عليه السلام)، فقيل لي:
ادخل، فدخلتُ فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتـّى قضى صلاته، فسمعته وهو
يناجي ربّه، ويقول: (يا من خصّنا بالكرامة، وخصّنا بالوصية، ووعدنا
الشفاعة، وأعطانا علم ما مضى وما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا،
اغفر لي ولإخواني, ولزوّار قبر أبي [عبد الله], الحسين(عليه السلام), الذين
أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في
صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك صلواتك عليه وآله، وإجابة منهم لأمرنا،
وغيظاً أدخلوه على عدوّنا, أرادوا بذلك رضاك، فكافهم عنّا بالرضوان،
واكلأهم بالليل والنهار - إلى أن قال: - فارحم تلك الوجوه التي قد غيّرتها
الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلّبت على حفرة أبي عبد الله(عليه السلام)،
وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت
واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا، اللّهمّ إنّي استودعك تلك
الأنفس، وتلك الأبدان, حتـّى نوافيهم على الحوض يوم العطش), فما زال وهو
ساجد يدعو الله بهذا الدعاء)) الخبر(10).
وبالدمع يمتزج العقل بالمحبّة, والبرهان بالعاطفة, فتدخل الولاية في
الوجدان كما دخلت في القلب، ليكون الإنسانُ مدفوعاً للتمسّك بهم شعوراً
وقلباً، بعدما كان متمسّكاً بهم عقلاً.
واعلم أيضاً أنّ البكاء ممدود
ومقصور، يأتي مع الهمزة وبدونها, فالبكا - مقصور -: خروج الدمع من العين,
والبكاء - ممدود ــ: خروج الدمع مع الصوت, وإذا خرج مع الصراخ فهو: العويل.
واعلم أيضاً أنّ البكاء من سبعة أُمور: الحزن، الفرح، الخوف، الفزع، الشكر، خشية الله, ومن الرياء.
والبكاء من الرياء كبكاء إخوة يوسف؛ قال تعالى: (( وَجَاؤُوا أَبَاهُم عِشَاءً يَبكُونَ )) (يوسف:16)، وباقي أقسام البكاء معروفٌ عند الجميع.
واعلم
أنّ أعظم أقسام البكاء ثواباً هو الخشية من الله؛ ففي الخبر: (كلّ عين
باكية يوم القيامة إلاّ ثلاثة أعين: عينٌ بكت من خشية الله, وعينٌ غضّت عن
محارم الله, وعينٌ باتت ساهرة في سبيل الله)(11).
وبهذا البكاء مع السجود يصل الإنسان إلى أعظم درجات القربى؛ قال تعالى: (( وَيَخِرُّونَ لِلأَذقَانِ يَبكُونَ وَيَزِيدُهُم خُشُوعاً )) (الاسراء:109).
والبكاء
خشيةً ترجع منفعته إلى العبد؛ لأنّه بكاء بسبب الذنب، بخلاف البكاء بسبب
حبّ الله, فهو متمحضّ في التقرّب لكون دافعه وفعله لله جلّ وعلا.
ومنه
البكاء بسبب حبّ أوليائه وحزناً على ما أصابهم، ومن أعظم مصاديقه: البكاء
على سيّد الشهداء الحسين بن عليّ(عليه السلام), فلا محالة يكون ثوابه
عظيماً، بل لا تقدير لثوابه؛ ففي الخبر عن أبي عبد الله(عليه السلام):
(لكلّ شيء ثواب إلاّ الدمعة فينا)(12).
واعلم أيضاً أنّ البكاء بكاءان, بكاء القلب وبكاء العين, وبكاء العين معروف المصداق، وتقدّم الكلام في ثوابه.
وبكاء
القلب بالهمّ والغمّ والحزن؛ ففي الخبر عن أبي عبد الله(عليه السلام):
(نَفَسُ المهموم لظلمنا تسبيح, وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل
الله، ثمّ قال أبو عبد الله(عليهم السلام): يجب أن يُكتب هذا الحديث
بالذهب)(13).
واعلم أيضاً أنّ عدم بكاء المعتقد بالولاية على الحسين(عليه السلام) عند ذكر مصابه إنّما هو لأحد سببين: الذنب والكِبر.
أمّا الذنب؛ ففي الخبر العلوي: (ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب)(14).
وفي
الخبر الصادقي عن آبائه(عليهم السلام), عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله
وسلّم): (من علامات الشقاء: جمود العين, وقسوة القلب، وشدّة الحرص في طلب
الرزق، والإصرار على الذنب)(15).
وأمّا الكِبر؛ قال تعالى: (( سَأَصرِفُ عَن آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ )) (الاعراف:146)، وأيُّ آيةٍ أعظم من مصيبة أبي عبد الله(عليه السلام).
وإذا
خلى المؤمن من هذين السببين مع التفاته إلى ما جرى على سيّد الشهداء(عليه
السلام), فلا بدّ أن يبكي؛ لذا ورد في الخبر عن الإمام الصادق(عليه
السلام): (كنّا عنده فذكرنا الحسين(عليه السلام)، فبكى أبو عبد الله(عليه
السلام) وبكينا، قال: ثمّ رفع رأسه، فقال: قال الحسين(عليه السلام): أنا
قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى)(16).
إذا ذُكر الحُسين فأيّ عينٍ ***** تصونُ دموعها صونَ احتشامِ
بكته الأنبياء وغيرُ بَدعٍ ***** بأن تبكي الكرام على الكرامِ
وقال آخر:
نزف البكاء دموعَ عينك فاستعر ***** عيناً لغيرك دمعُها مدّارُ
من ذا يُعيرك عينه تبكي بها ***** ياليت عيناً بالبكاء تُعارُ
ومن جهة أُخرى فالعجب من بعضهم كالشيخ البهبودي في حاشيته على فضل ثواب
البكاء على سيّد الشهداء(عليه السلام) في (بحار الأنوار 44: 293، وما
بعدها)، حيث ذهب إلى أنّ هذا الثواب محمول على زمن خاص, وهو زمن صدق عنوان
الجهاد على البكاء, وهو مخصوص بزمن بني أُميّة؛ لأنّهم أرادوا إماتة ذكر
الحسين(عليه السلام) ومنع زيارته، ومنع البكاء عليه.
وفيه: إنّ الأخبار
المتقدّمة مطلقة تشمل كلّ زمن وحال, بل بعضها يأبى عن التخصيص بزمن خاص،
كصحيح ابن شبيب، عن الإمام الرضا(عليه السلام): (يا بن شبيب! إن سَرّك أن
تكون معنا في الدرجات العُلى من الجنان, فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا، وعليك
بولايتنا، فلو أنّ رجلاً تولّى حجراً لحشره الله معه يومَ القيامة)(17).
وخبر
الأربعمئة, قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع
إلى الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعةً ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون
لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أُولئك منّا وإلينا)(18).
بل
كلّ الأخبار المتقدّمة في ثواب البكاء، أو جُلّها، واردٌ في عصر بني
العبّاس, وإذا جاز مضمونها لبقاء الروح الأموية، فكذلك يجوز مضمونها اليومَ
لبقاء هذه الروح الخبيثة عند بعض المسلمين من غير الشيعة.
ومن جهة ثالثة لا خلاف بين الشيعة الإمامية أعزّهم الله نصّاً وفتوى في جواز البكاء على الميّت, قبل الدفن وبعده، كما في (الحدائق)(19)، للأخبار المستفيضة, بل التي لا تقصر عن التواتر كما في (الجواهر)(20).
منها:
ما رواه الصدوق: قال الصادق(عليه السلام): (لمّا مات إبراهيم ابن رسول
الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم):
حزنا عليك يا إبراهيم, وإنّا لصابرون, يحزن القلب، وتدمع العين, ولا نقول
ما يسخط الربّ)(21).
وخبر ابن القداح، عن أبي عبد الله(عليه
السلام)، قال: (فلمّا مات إبراهيم ابن رسول الله(صلّى الله عليه وآله
وسلّم), هَمَلت عين رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدموع، ثمّ قال
النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): تدمع العين، ويحزن القلب, ولا نقول ما
يسخط الربّ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون)(22).
وما رواه
الكليني باسناده عن أبي بصير، عن أحدهما(عليهما السلام)، قال: (لمّا ماتت
رقية ابنة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال رسول الله(صلّى الله
عليه وآله وسلّم): الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه، قال:
وفاطمة(عليها السلام) على شفير القبر تنحدر دموعها في القبر)(23)؟
وما
رواه الصدوق: ((النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين جاءته وفاة جعفر بن
أبي طالب(عليه السلام) وزيد بن حارثة، كان إذا دخل بيته كثُر بكاؤه عليهما
جدّاً، ويقول: كانا يحدّثاني ويؤنساني، فذهبا جميعاً))(24).
وما
رواه الطوسي في أماليه, بإسناده عن عائشة، قالت: (لمّا مات إبراهيم بكى
النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتـّى جرت دموعه على لحيته, فقيل له: يا
رسول الله، تنهى عن البكاء وأنت وتبكي؟ فقال: ليس هذا بكاء، وانما هي
رحمة, ومن لا يَرحم لا يُرحم)(25).
بل يستحبّ البكاء عند
اشتداد الوجد لما في خبر منصور الصيقل، قال: ((شكوت إلى أبي عبد الله(عليه
السلام) وجداًً وجدته على ابنٍ لي هَلَك, حتـّى خفت على عقلي, فقال: (إذا
أصابك من هذا شيء فأفضِ من دموعك؛ فإنّه يسكن عنك) ))(26).
ولمّا أورده الصدوق قال: ((وقال(عليه السلام) - أي الصادق: - من خاف على نفسه من وجدٍ بمصيبةٍ فليفض من دموعه؛ فإنّه يسكن عنه))(27)، ولذا قال في (الجواهر): ((بل ربّما يظهر من بعض الأخبار استحبابه عند اشتداد الوجد))(28).
وأمّا عند العامّة فالبكاء على الميّت نفسه مباح عندهم بالاتّفاق؛ ففي
(الفقه على المذاهب الأربعة): ((يحرم البكاء على الميّت برفع الصوت والصياح
عند المالكية والحنفية، وقال الشافعية والحنابلة: إنّه مباح, أما هطل
الدموع بدون صياح فإنه مباحٌ باتّفاق))(29).
وفي (المغني)
لابن قدامة: ((أمّا البكاء بمجرّده فلا يُكره في حالٍ، وقال الشافعي: يباح
إلى أن تخرج الروح, ويُكره بعد ذلك؛ لما روى عبد الله بن عتيك، قال: جاء
رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى عبد الله بن ثابت يعوده، فوجده
قد غلب, فصاح به فلم يجبه، فاسترجع، وقال: ((غلبنا عليك أبا الربيع)), فصاح
النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهنّ، فقال له النبيّ(صلّى الله عليه وآله
وسلّم): (دعهنّ فإذا وجب فلا تبكين باكية, يعني إذا مات.
ولنا ما روى
أنس، قال: ((شهدنا بنت رسول الله ورسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)
جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، وقبّل النبيّ(صلّى الله عليه وآله
وسلّم) عثمان بن مظعون وهو ميّت, ورفع رأسه وعيناه تهراقان)).
وقال أنس:
قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): ((أخذ الرايةَ زيدٌ فأُصيب,
ثمّ أخذها جعفر فأُصيب, ثمّ أخذها عبد الله بن رواحة فأُصيب، وإنّ عيني
رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتذرفان)) إلى آخر ما قاله(30).
وعليه فالحكم بكراهة البكاء على الميّت بعد الموت، كما عن الشافعي، مردود بأخبارهم وأخبارنا.
هذا من ناحية الفتوى عندهم، وأمّا من ناحية أخبارهم، فقسم منها يدلّ على الجواز، وقسم يدلّ على النهي, ومن القسم الناهي:
ما أورده البيهقي في سننه، بإسناده عن ابن الخطّاب، عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: ((الميّت يُعذّب ببكاء الحيّ))(31).
وبإسناده
عن ابن عمر: ((أنّ حفصة بكت على عمر فقال: مهلاً يا بُنية، ألم تعلمي أنّ
رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (إنّ الميّت يُعذّب ببكاء أهله
عليه) ))(32)، وقال البيهقي عقيبه: ((رواه مسلم في الصحيح))(33).
وبإسناده
عن أبي بردة بن أبي موسى, عن أبيه، قال: ((لمّا طُعن عمر جعل صهيب يقول:
وا أخاه, فقال له عمر: يا صهيب! أما علمت أنّ رسول الله(صلّى الله عليه
وآله وسلّم) قال: (إنّ الميّت ليُعذّب ببكاء الحيّ) )).
وقال البيهقي: ((رواه البخاري في الصحيح عن إسماعيل بن الخيل عن علي بن مسهر، ورواه مسلم عن علي بن حجر))(34).
وبإسناده عن عبد الله بن عمر: ((أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إنّ الميّت ليعذّب ببكاء الحي))(35).
ولا
يؤخذ بظاهرها؛ لما روته العامّة أنفسهم, كما رواه البيهقي بإسناده عن هشام
بن عروة، عن أبيه: ((إنّ عائشة ذُكر عندها قول ابن عمر في المُعوّل عليه
يُعذّب ببكاء أهله عليه، فقالت: يُعذّب ببكاء أهله عليه؟ فقالت: يرحم الله
أبا عبد الرحمن [كنية ابن عمر]، سمع شيئاً فلم يحفظه، إنّما مرّ بجنازة رجل
من اليهود، فجعل أهله يبكونه، فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم):
إنّهم ليبكونه, وإنّه ليعذّب))(36).
وما رواه البيهقي عن
عبد الله بن أبي بكر, عن أبيه: ((أنّ عبد الله بن عمر لمّا مات رافع بن
خديج, قال لهم: لا تبكوا عليه؛ فإنّ بكاء الحيّ عذابٌ للميت)). وقال عن
عمرة: فسألت عائشة عن ذلك، فقالت: ((يرحمه الله، إنّما قال رسول الله(صلّى
الله عليه وآله وسلّم) ليهودية وأهلها يبكون: إنّهم ليبكون عليها، وإنّها
لتعذّب في قبرها))(37).
وما رواه البيهقي بإسناده عن عمرة:
((أنّها سمعت عائشة، وذُكر لها أنّ عبد الله بن عمر يقول: إنّ الميّت
ليُعذّب ببكاء الحيّ, فقالت عائشة: أما أنّه لم يكذب، ولكنّه أخطأ أو نسي,
إنّما مرّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على يهودية، وهي يبكي
عليها أهلها، فقال: إنّهم ليبكون عليها, وإنّها لتعذّب في قبرها))(38).
وما
رواه البيهقي بإسناده عن القاسم بن محمّد، قال: ((لمّا بلغ عائشة قول عمر
وابن عمر، قالت: إنّكم لتحدّثون عن غير كاذبين ولا مكذّبين, ولكن السمع
يخطئ))(39).
فعائشة أنكرت هذه الأخبار عن النبيّ(صلّى الله
عليه وآله وسلّم)، ونسبت الاشتباه أو النسيان إلى عمر وابنه، وإن حاولت
العامّة تفسير الأحاديث الناهية بغير ذلك؛ حفظاً لعمر وابنه عن النسيان
والاشتباه(40).
وعلى كلٍّ فقد روت العامّة بكاء النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على
السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، كما في (المستدرك على
الصحيحين)، أورده الحاكم النيسابوري بإسناده عن أُمّ الفضل بنت الحارث:
((أنّها دخلت على رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), فقالت: يا رسول
الله! إنّي رأيتُ حلماً منكراً الليلة.
قال: وما هو؟
قالت: إنّه شديد.
قال: وما هو؟
قالت: رأيت كأنّ قطعة من جسدك قُطعت, ووُضعت في حجري.
فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): رأيت خيراً، تلد فاطمة - إن شاء الله - غلاماً, فيكون في حجرك.
فولدت فاطمةُ الحسينَ، فكان في حجري, كما قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فدخلت
يوماً إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), فوضعتُه في حجره، ثمّ
حانت منّي التفاتة، فإذا عينا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)
تهريقان من الدموع، قالت: فقلت: يا نبيّ الله, بأبي أنت وأمّي, ما لك؟
قال: أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فأخبرني أنّ أُمّتي ستقتل ابني هذا. فقلت: هذا؟
فقال: نعم, وأتاني بتربة من تربته حمراء)).
قال النيسابوري عقيب الخبر: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه))(41).
ودمتم في رعاية الله