نشأ وتربّي في ظلّ أبيه الذي فاق أهل عصره علماً وزهداً وتقويً وجهاداً . وصحب أباه اثنين أو ثلاثاً وعشرين سنة1 وتلقّي خلالها ميراث الإمامة والنبوّة فكان كآبائه الكرام علماً وعملاً وقيادةً وجهاداً وإصلاحاً لاُمّة جدّه محمّد (صلي اللّه عليه وآله وسلم) .
وقد ظهر أمر إمامته في عصر أبيه الهادي (عليه السلام) وتأكّد لدي الخاصة من أصحاب الإمام الهادي والعامة من المسلمين أنّه الإمام المفترض الطاعة بعد أبيه (عليه السلام) .
تولّي مهامّ الإمامة بعد أبيه واستمرّت إمامته نحواً من ست سنوات2، مارس فيها مسؤولياته الكبري في أحرج الظروف وأصعب الأيّام علي أهل بيت الرسالة بعد أن عرف الحكّام العباسيون ـ وهم أحرص من غيرهم علي استمرار حكمهم ـ أنّ المهدي من أهل بيت رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) ومن ولد عليّ ومن ولد الحسين (عليه السلام) فكانوا يترصّدون أمره وينتظرون أيّامه كغيرهم ، لا ليسلّموا له مقالد الحكم بل ليقضوا علي آخر أمل للمستضعفين .
لقد كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) استاذ العلماء وقدوة العابدين وزعيم المعارضة السياسية والعقائدية في عصره ، وكان يشار إليه بالبنان وتهفو إليه النفوس بالحبّ والولاء كما كانت تهفو الي أبيه وجدّه اللّذَين عُرف كل منهما بابن الرضا (عليهما السلام)3، كل هذا رغم معاداة السلطة لأهل البيت (عليهم السلام) وملاحقتها لهم ولشيعتهم .
وقد فرضت السلطة العبّاسيّة الإقامة الجبرية علي الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) وأجبرته علي الحضور يومين من كلّ اُسبوع في دار الخلافة العبّاسية.
مراحل حياة الامام العسكري(ع)
تنقسم حياة الإمام العسكري (عليه السلام) الي مرحلتين متميزتين :
المرحلة الأُولي : هي الأيام التي قضاها الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في ظلال إمامة أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) والتي تقرب من (22 سنة) حيث تنتهي باستشهاد أبيه سنة (254ه ) .
ولا نملك صورة تفصيلية عن هذين العقدين من الزمن فيما يخص حياة الإمام الحسن العسكري سوي بضعة حوادث تتلخص في صور من خشيته للّه منذ صباه وعلاقته الحميمة بأخويه محمّد والحسين ثم رزءه بأخيه محمّد، ثم زواجه ونصّ الإمام الهادي علي إمامته، ثم تجهيزه لأبيه حين وفاته صلوات اللّه عليه .
ولا بد لنا أن نلمّ بأحداث عصر الإمام الهادي (عليه السلام) ومواقفه منها كي نستطيع أن نخرج بصورة واضحة عن الظروف التي أحاطت بالإمام العسكري (عليه السلام) في المرحلة الثانية من حياته كي يتسني لنا تقويمها ودراسة نشاطاته (عليه السلام) في عصر إمامته الذي لا نجد عصراً أقصر منه ولا أشد حراجة بالنسبة للإمام نفسه ولشيعته ولأهدافه .
المرحلة الثانية : هي أيام إمامته حتي استشهاده والتي تبدأ من سنة (254ه) وحتي سنة استشهاده (260ه) وهي مرحلة حافلة بأحداث مهمة علي الرغم من قصرها .
وقد عاصر فيها كُلاًّ من المعتزّ (255 ه ) والمهتدي (256 ه ) والمعتمد (279 ه )
وتبرز مدي أهميتها حينما نتصوّر أهمية مرحلة الغيبة التي كان لا بد للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أن يقوم بالتمهيدات اللازمة فيها لنقل شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من مرحلة الحضور الي مرحلة الغيبة التي يُراد من خلالها حفظ الإمام المعصوم وحفظ شيعته وحفظ خطّهم الرسالي من الضياع والإنهيار والاضمحلال، حتّي تتهيّأ الظروف الملائمة لثورة أهل البيت الربّانية علي كل صروح الظلم والطغيان وتحقيق جميع أغراض الرسالة الإلهية الخالدة علي وجه الأرض من خلال دولة العدالة العالمية لأهل البيت (عليهم السلام) .
انطباعات عن شخصية الامام العسكري(ع)
احتلّ أهل البيت (عليهم السلام) المنزلة الرفيعة في قلوب المسلمين لما تحلّوا به من درجات عالية من العلم والفضل والتقوي والعبادة فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة عن الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) في الحث علي التمسّك بهم والأخذ عنهم .
والقرآن الكريم ـ كما نعلم ـ قد جعل مودّة أهل البيت وموالاتهم أجراً للرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) علي رسالته كما قال تعالي : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي )4 .
غير أنّ الحكّام والخلفاء الذين تحكّموا في رقاب الأُمّة بالسيف والقهر حاولوا طمس معالمهم وإبعاد الأُمّة عنهم بمختلف الوسائل والطرق ثم توّجوا أعمالهم بقتلهم بالسيف أو بدس السمّ .
ومع كل ما فعله الحكّام المنحرفون عن خطّ الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بأهل البيت (عليهم السلام) ، لم يمنعهم ذلك السلوك العدائي من النصح والإرشاد للحكّام وحل الكثير من المعضلات التي واجهتها الدولة الإسلامية علي إمتداد تأريخها بعد وفاة الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وحتي عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) .
وقد حُجبت عنّا الكثير من مواقفهم وسِيَرهم إما خشية من السلطان أو لأنّ من كتب تأريخنا الإسلامي إنّما كتبه بذهنية اُموية ومداد عبّاسي لأنه قد عاش علي فتات موائد الحكام المستبدّين .
ونورد هنا جملة من أقوال وشهادات معاصري الإمام (عليه السلام) وانطباعاتهم عن شخصيّته النموذجيّة التي فاقت شخصيته جميع من عاصره من رجال وعلماء الأُمّة الإسلامية .
مظاهر من شخصية الامام العسكري(ع)
لقد مثّل الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) الرسول الأعظم محمّداً (صلي اللّه عليه وآله وسلم) في مكارم أخلاقه إذ كان علي جانب عظيم من سموّ الأخلاق ومعالي الصفات، يقابل بها الصديق والعدو، وكانت هذه الظاهرة من أبرز مكوناته النفسية ، ورثها عن آبائه وجده رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) الذي وسع الناس جميعاً بمكارم أخلاقه ، وقد أثّرت مكارم أخلاقه علي أعدائه والحاقدين عليه ، فانقلبوا من بغضه الي حبّه والإخلاص له ونذكر بعض فضائله من خلال البحث .
سماحته وكرمه
نقل المؤرخون نماذج من السيرة الكريمة للإمام العسكري (عليه السلام) نذكر بعضاً منها :
1 ـ روي الشيخ الكليني والشيخ المفيد عن محمّد بن عليّ بن إبراهيم بن موسي بن جعفر (عليه السلام): قال : ضاق بنا الأمر فقال لي أبي : امضِ بنا حتي نصير الي هذا الرجل ـ يعني أبا محمّد ـ فإنه قد وصف عنه سماحة .
فقلت : تعرفه ؟
قال : ما أعرفه ، ولا رأيته قط .
قال : فقصدناه .
فقال لي أبي وهو في طريقه : ما أحوجنا الي أن يأمر لنا بخمسمائة درهم مائتي درهم للكسوة ومائتي درهم للدقيق ، ومائة درهم للنفقة .
وقلت في نفسي ليته أمر لي بثلاثمائة درهم ، مائة اشتري بها حماراً ومائة للنفقة ومائة للكسوة ، فأخرج الي الجبل .
قال ـ أي محمّد بن عليّ ـ فلما وافينا الباب خرج غلامه ، فقال : يدخل عليّ بن إبراهيم ومحمّد ابنه ، فلما دخلنا عليه وسلمنا ، قال لأبي : ياعليّ ما خلفك عنا الي هذا الوقت، قال : ياسيدي : استحييت أن ألقاك علي هذه الحال ، فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة، وقال: هذه خمسمائة درهم، مائتان لِلكسوة ، ومائتان للدقيق ، ومائة للنفقة وأعطاني صرة وقال : هذه ثلاثمائة درهم فاجعل مائة في ثمن حمار ، ومائة للكسوة ، ومائة للنفقة ، ولا تخرج الي الجبل ، وصر الي سوراء.
قال : فصار الي سوراء وتزوج بإمرأة منها فدخله اليوم ألفا دينار ومع هذا يقول بالوقف 5.
2 ـ وروي إسحاق بن محمّد النخعي قال : حدثني أبو هاشم الجعفري قال : شكوت الي أبي محمّد (عليه السلام) ضيق الحبس وكلب القيد6 ، فكتب إلي أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك ، فاُخرجت وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال ، وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه معونة في الكتاب الذي كتبته فاستحييت ، فلما صرت إلي منزلي وجّه إليّ بمائة دينار ، وكتب إليّ: «اذا كانت لك حاجة ، فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها تأتك علي ما تحب إن شاء اللّه»7.
زهده وعبادته
عُرف الإمام العسكري (عليه السلام) في عصره بكثرة عبادته وتبتّله وانقطاعه الي اللّه سبحانه واشتهر ذلك بين الخاصة والعامة ، حتي أنّه حينما حبس الإمام (عليه السلام) في سجن عليّ بن نارمش ـ وهو من أشد الناس نصباً لآل أبي طالب ـ ما كان من عليّ هذا إلاّ أن وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس قولاً فيه8.
ولما حبسه المعتمد كان يسأل السجّان ـ عليّ بن جرين ـ عن أحوال الإمام (عليه السلام) وأخباره في كل وقت فيخبره عليّ بن جرين أنّ الإمام (عليه السلام) يصوم النهار ويصلي الليل9.
عن عليّ بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسي بن جعفر بن محمّد عن عليّ بن عبدالغفّار10 قال: دخل العبّاسيّون علي صالح بن وصيف ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية علي صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد عليهما السلام .
فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام الي أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين11.
وكان يتسوّر عليه الدار جلاوزة السلطان في جوف الليل فيجدونه في وسط بيته يناجي ربّه سبحانه .
إنّ سلامة الصلة باللّه سبحانه وما ظهر علي يدي الإمام من معاجز وكرامات تشير الي المنزلة العالية والشأن العظيم للإمام (عليه السلام) عند اللّه الذي اصطفاه لعهده والذي تجلّي في إمامته (عليه السلام).
علمه ودلائل امامته
وإليك شذرات من علوم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ودلائل إمامته:
1 ـ عن أبي حمزة نصر الخادم قال : سمعت أبا محمّد (عليه السلام) غير مرة يكلّم غلمانه بلغاتهم ، وفيهم ترك ، وروم وصقالبة ، فتعجّبت من ذلك وقلت : هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتي مضي أبو الحسن ـ أي الإمام الهادي (عليه السلام) ـ ولا رآه أحد فكيف هذا ؟ ! اُحدّث نفسي بذلك فأقبل عليَّ فقال: «إنّ اللّه جلّ ذكره أبان حجّته من ساير خلقه وأعطاه معرفة كل شيء، فهو يعرف اللغات والأسباب والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرق»12.
2 ـ وقال الحسن بن ظريف : اختلج في صدري مسألتان أردت الكتاب بهما الي أبي محمّد (عليه السلام) ، فكتبت أسأله عن القائم اذا قام بم يقضي ؟ وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس ؟ وأردت أن أسأله عن شيء لحُمّي الربع ، فأغفلت ذكر الحُمّي ، فجاء الجواب :
سألتَ عن القائم، وإذا قام قضي بين الناس بعلمه كقضاء داود (عليه السلام) ولا يسأل البينة ، وكنت أردت أن تسأل عن حمّي الرُّبع ، فأنسيت فاكتب في ورقة وعلّقه علي المحموم: (يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَي إِبْرَاهِيمَ)13. فكتبت ذلك وعلّقته علي المحموم فأفاق وبريء14 .
3 ـ وروي الشيخ المفيد عن أبي القاسم جعفر بن محمّد عن محمّد بن يعقوب عن إسماعيل بن إبراهيم بن موسي بن جعفر ، قال : كتب أبو محمّد الحسن (عليه السلام) الي أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو من عشرين يوماً ، إلزم بيتك حتي يحدث الحادث ، فلما قُتل بريحة كتب إليه قد حدث الحادث ، فما تأمرني ؟ فكتب إليه : ليس هذا الحادث ، الحادث الآخر . فكان من المعتز ما كان15.
أي أنّ الإمام (عليه السلام) ، أشار الي موت المعتز ، فطلب من مواليه أن يلتزموا بالبقاء في بيوتهم حتي ذلك الوقت لظروف خاصة كانت تحيط بالإمام (عليه السلام) وبهم من الشدة وطلب السلطان وجلاوزته لهم .
ومن الطبيعي أنّ موت الخليفة يعقبه غالباً اضطراب في الوضع يمكّن معارضيه من التحرك والتنقل بسهولة .
الاعداد لعصر الغيبة
انتهينا في البحث السابق عن معرفة كيفية طرح الإمام لقضية ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وإمامته وأنّه الخلف الصالح الذي وعد اللّه به الاُمم أن يجمع به الكلم في أصعب الظروف التي كانت تكتنف ولادة الإمام (عليه السلام)، وقد لاحظنا مدي إنسجام تلك الإجراءات التي اتّخذها الإمام العسكري (عليه السلام) في هذا الصدد مع الظروف المحيطة بهما.
غير أنّ النقطة الأُخري التي تتلوها في الأهمية هي مهمة إعداد الأُمّة المؤمنة بالإمام المهدي (عليه السلام) لتقبّل هذه الغيبة التي تتضمّن انفصال الأُمّة عن الإمام بحسب الظاهر وعدم إمكان ارتباطها به وإحساسها بالضياع والحرمان من أهم عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفردية والاجتماعية، فقد كان الإمام حصناً منيعاً يذود عن أصحابه ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية في كثير من الأحيان.
فهنا صدمة نفسية وإيمانية بالرغم من أنّ الإيمان بالغيب يشكّل عنصراً من عناصر الإيمان المصطلح، لأنّ المؤمنين كانوا قد اعتادوا علي الإرتباط المباشر بالإمام (عليه السلام) ولو في السجن أو من وراء حجاب وكانوا يشعرون بحضوره وتواجده بين ظهرانيهم ويحسّون بتفاعله معهم، والآن يُراد لهم أن يبقي هذا الإيمان بالإمام حيّاً وفاعلاً وقويّاً بينما لا يجدون الإمام في متناول أيديهم وقريباً منهم بحيث يستطيعون الإرتباط به متي شاءوا.
إنّ هذه لصدمة يحتاج رأبها الي بذل جهد مضاعف لتخفيف آثارها وتذليل عقباتها. وقد مارس الإمام العسكري تبعاً للإمام الهادي (عليهما السلام) نوعين من الإعداد لتذليل هذه العقبة ولكن بجهد مضاعف وفي وقت قصير جدّاً.
الأوّل: الإعداد الفكري والذهني.
الثاني: الإعداد النفسي والروحي.
أما الإعداد الفكري فقد قام الإمام تبعاً لآبائه (عليهم السلام) باستعراض فكرة الغيبة علي مدي التاريخ وطبّقها علي ولده الإمام المهدي (عليه السلام) وطالبهم بالثبات علي الإيمان باعتباره يتضمن عنصر الإيمان بالغيب وشجّع شيعته علي الثبات والصبر وانتظار الفرج وبيّن لهم طبيعة هذه المرحلة ومستلزماتها وما سوف يتحقق فيها من امتحانات عسيرة يتمخّض عنها تبلور الإيمان والصبر والتقوي التي هي قوام الإنسان المؤمن برّبه وبدينه وبإمامه الذي يريد أن يحمل معه السلاح ليجاهد بين يديه.
فقد حدّث أبو عليّ بن همّام قائلاً: سمعت محمّد بن عثمان العمري قدس اللّه روحه يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمّد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): «إنّ الأرض لا تخلو من حجة للّه علي خلقه الي يوم القيامة وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية فقال (عليه السلام): إنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حق، فقيل له: ياابن رسول اللّه فمن الحجّة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمّد هو الإمام والحجّة بعدي. من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج فكأني أنظر الي الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»16.
وحدّث موسي بن جعفر بن وهب البغدادي فقال: سمعت أبا محمّد الحسن (عليه السلام) يقول: «كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما أنّ المقرّ بالأئمة بعد رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) المنكر لولدي كمن أقرّ بجميع أنبياء اللّه ورسله ثم أنكر نبوّة رسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم)، والمنكر لرسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) كمن أنكر جميع الأنبياء، لأنّ طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما أنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من عصمه اللّه عزّ وجلّ»17.
وحدّث الحسن بن محمّد بن صالح البزّاز قائلاً: سمعت الحسن بن عليّ العسكري (عليهما السلام) يقول: «إنّ ابني هو القائم من بعدي وهو الذي يُجري فيه سنن الأنبياء بالتعمير والغيبة حتي تقسو القلوب لطول الأمد فلا يثبت علي القول به إلاّ من كتب اللّه عزّوجلّ في قلبه الإيمان وأيّده بروحٍمنه»18.
الي غيرها من الأحاديث والأدعية التي تضمّنت بيان فكرة الغيبة وضرورة تحققها وضرورة الإيمان بها والصبر فيها والثبات علي الطريق الحقّ مهما كانت الظروف صعبة وعسيرة.
وأما الإعداد النفسي والروحي فقد مارسه الإمام (عليه السلام) منذ زمن أبيه الهادي (عليه السلام) فقد مارس الإمام الهادي (عليه السلام) سياسة الاحتجاب وتقليل الإرتباط بشيعته إعداداً للوضع المستقبلي الذي كانوا يستشرفونه وكان يُهيئهم له، كما انّه قد مارس عملية حجب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن شيعته فلم يعرفه كثير من الناس وحتي شيعته إلاّ بعد وفاة أخيه محمّد19 حيث أخذ يهتمّ بإتمام الحجّة علي شيعته بالنسبة لإمامة الحسن من بعده واستمر الإمام الحسن (عليه السلام) في سياسة الاحتجاب وتقليل الإرتباط لضرورة تعويد الشيعة علي عدم الإرتباط المباشر بالإمام ليألفوا الوضع الجديد ولا يشكّل صدمة نفسية لهم20، فضلاً عن أنّ الظروف الخاصة بالإمام العسكري (عليه السلام) كانت تفرض عليه تقليل الإرتباط حفظاً له ولشيعته من الإنكشاف أمام أعين الرقباء الذين زرعتهم السلطة هنا وهناك ليراقبوا نشاط الإمام وإرتباطاته مع شيعته.
وقد عوّض الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) الأضرار الحاصلة من تقليل الإرتباط المباشر بأمرين:
أحدهما: إصدار البيانات والتوقيعات بشكل مكتوب الي حدٍّ يغطي الحاجات والمراجعات التي كانت تصل الي الإمام (عليه السلام) بشكل مكتوب. وأكثر الروايات عن الإمام العسكري (عليه السلام) هي مكاتباته مع الرواة والشيعة الذين كانوا يرتبطون به من خلال هذه المكاتبات21.
ثانيهما: الأمر بالإرتباط بالإمام (عليه السلام) من خلال وكلائه الذين كان قد عيّنهم لشيعته في مختلف مناطق تواجد شيعته. فكانوا حلقة وصل قوية ومناسبة ويشكّلون عاملاً نفسيّاً ليشعر أتباع أهل البيت باستمرار الإرتباط بالإمام وإمكان طرح الأسئلة عليه وتلقي الأجوبة منه. فكان هذا الإرتباط غير المباشر كافياً لتقليل أثر الصدمة النفسية التي تحدثها الغيبة لشيعة الإمام (عليه السلام).
وهكذا تمّ الإعداد الخاص من قبل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لشيعته ليستقبلوا عصر الغيبة بصدر رحب واستعداد يتلائم مع مقتضيات الإيمان باللّه وبرسوله وبالأئمة وبقضية الإمام المهدي (عليه السلام) العالمية والتي تشكّل الطريق الوحيد لإنقاذ المجتمع الإنساني من أوحال الجاهلية في هذه الحياة.
استشهاد الامام الحسن العسكري(ع)
وبعد أن أدّي الإمام العسكري (عليه السلام) مسؤليته بشكل كامل تجاه دينه وأمّة جده (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وولده (عليه السلام) نعي نفسه قبل سنة ستين ومئتين ، وأخذ يهدّئ روع والدته قائلاً لها : «لا بد من وقوع أمر اللّه فلا تجزعي»22...، ونزلت الكارثة كما قال ، والتحق بالرفيق الأعلي بعد أن اعتلّ (عليه السلام) في أوّل يوم من شهر ربيع الأوّل من ذلك العام23. ولم تزل العلة تزيد فيه والمرض يثقل عليه حتي استشهد في الثامن من ذلك الشهر24، وروي أيضاً أنّه قد سُم واغتيل من قبل السلطة25 حيث دسّ السم له المعتمد العبّاسي الذي كان قد أزعجه تعظيم الأمة للإمام العسكري وتقديمهم له علي جميع الهاشميين من علويين وعبّاسيين فأجمع رأيه علي الفتك به.
ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمّد (الحجّة) وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين وقد آتاه اللّه الحكمة وفصل الخطاب26.
ودفن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلي جانب أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) في سامراء27 ، وقد ذكر أغلب المؤرخين أنّ سنة وفاته كانت (260ه) . دون إيضاح لسبب وفاته28.
وروي الصدوق عن أحمد بن عبيداللّه بن خاقان أنه قال : لما اعتل (ابن الرضا) (عليه السلام) ، بعث (جعفر بن عليّ) الي أبي : أنّ ابن الرضا (عليه السلام) قد إعتل فركب من ساعته مبادراً الي دار الخلافة : ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدّام أمير المؤمنين ـ أي الخليفة ـ كلهم من ثقاته وخاصته فمنهم نحرير ، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن عليّ وتعرّف خبره وحاله ، وبعث الي نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً، فلما كان بعد ذلك بيومين جاءه من أخبره أنّه قد ضعف فركب حتي بكّر إليه ثم أمر المتطببين بلزومه وبعث الي قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه فأحضرهم فبعث بهم الي دار الحسن (عليه السلام) وأمرهم بلزوم داره ليلاً ونهاراً فلم يزالوا هناك حتي توفي لأيّام مضت من شهر ربيع الأوّل من سنة ستين ومائين29.
يتّضح لنا من خلال متابعة تاريخ الإمام العسكري (عليه السلام) وموقف السلطة العبّاسية منه أنّ محاولة للتخلّص من الإمام قد دبّرت من قبل الخليفة المعتمد خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سلسلة الإجراءات التي اتّخذتها السلطة إزاء الإمام عليّ الهادي (عليه السلام) أوّلاً ، ثم ما اتخذته من إجراءات ضد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ، فقد قامت بسجنه عدّة مرات فضلاً عن المراقبة المشددة علي بيته ، كما حاولت نفيه إلي الكوفة ، وغيرها من الإجراءات التعسّفيّة ضدّه وضد شيعته وضد العلويين ، ووفقاً لذلك وبضم رواية أحمد بن عبيداللّه بن خاقان والذي كان أبوه أحد أبرز رجالات الدولة ، يتأكّد لنا أنّ استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) كانت وراءه أيدي السلطة الآثمة دون أدني شكّ.
-----------------------------
1. سيتّضح ذلك في الفصل الأوّل من الباب الثاني حيث سيتم التعرض لسنة ولادته ووفاته. وإذا ما عرفنا أنّ وفاة أبيه الهادي عليه السلام كانت في سنة (254 ه) فستكون صحبته لأبيه أثنتين وعشرين سنة بناءً علي أنّ ولادته (عليه السلام) كانت في سنة (232 ه) وهكذا لأنّ المؤرخين اختلفوا في سنة ولاده الإمام العسكري (عليه السلام) .
2. حيث إنّه توفي سنة 260 ه علي ما سيأتي، وانظر أيضاً إعلام الوري: 2/129.
3. انظر إعلام الوري: 2/131، مناقب آل أبي طالب: 3/523، الفصول المهمّة لابن الصبّاع المالكي: 2/1080 .
4. الشوري 42 : 23 .
5. الكافي: 1/506، الإرشاد: 2 / 326 ـ 327 وعنه في كشف الغمة: 3 / 206، واللفظ للإرشاد.
6. كلب القيد : شدته وضيقه .
7. الكافي: 1/508، الإرشاد: 2/330، إعلام الوري: 2/140 وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/208، واللفظ للإرشاد.
8. انظر الكافي : 1 / 508، الإرشاد: 2/329 ـ 330، إعلام الوري: 2/150.
9. انظر مهج الدعوات : 330، عيون المعجزات: 125، وعن المهج في بحار الأنوار: 50/314.
10. في الإرشاد أسند الرواية الي محمّد بن إسماعيل ولم يذكر عليّ بن عبدالغفار.
11. الكافي: 1/512، الإرشاد: 2/334، إعلام الوري: 2/150 ـ 151، واللفظ للأوّل.
12. انظر الكافي: 1/509، الإرشاد: 2/330 ـ 331، إعلام الوري: 2/145 وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/208، واللفظ للإرشاد.
13. الأنبياء 21: 69 .
14. الكافي: 1/509، الإرشاد: 2/331، إعلام الوري: 2/145 وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/208 واللفظ للإرشاد، وحُمّي الرّبع: هو أن يأخذ يوماً ويترك يومين ويعود في اليوم الرابع، والآية من سورة الأنبياء: 69.
15. الكافي: 1/506، الإرشاد: 2/325 وعنه في كشف الغمة: 3/205، وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 5/277 ـ 278، واللفظ للأخير، وقد اختلفت المصادر في اسم الذي قُتل ؛ فبعضها ذكر بريحة وبعضها ترنجة، والأمر سهل.
16. كمال الدين وتمام النعمة: 409، كفاية الأثر: 296، وانظر الصراط المستقيم: 2/232.
17. كمال الدين وتمام النعمة: 409، كفاية الأثر: 295 ـ 296، وعنهما في بحار الأنوار: 51/160 .
18. كمال الدين وتمام النعمة: 524، الخرائج والجرائح: 2/164، وعن كمال الدين في بحار الأنوار: 51/224.
19. تقدّم ذلك عند ذكر نصوص الإمام الهادي عليه السلام علي إمامة الحسن العسكري (عليه السلام).
20. انظر إثبات الوصية: 272.
21. انظر بعض المكاتبات في: الكافي 1/509، 5/125، 181، 7/461، معاني الأخبار: 188، مناقب آل أبي طالب: 3/527 ـ 528 .
22. بصائر الدرجات: 502، مهج الدعوات: 330، ونقله في بحار الأنوار عن المهج في: 50/313، وعن البصائر في: 50/330 .
23. انظر في ذلك الإرشاد: 2/336، إعلام الوري: 2/151، مناقب آل أبي طالب: 3/524.
24. انظر تاريخ وفاته في الكافي: 1/503، الإرشاد: 2/336، إعلام الوري: 2/151، مطالب السؤول: 2/149، وفيات الأعيان: 2/94.
25. انظر إعلام الوري: 2/131، دلائل الإمامة: 423 ـ 424، مناقب آل أبي طالب: 3/523، الصواعق المحرقة: 2/601.
26. انظر الإرشاد: 2/339، الصواعق المحرقة: 2/601.
27. الكافي: 1/503، الإرشاد: 2/336، إعلام الوري: 2/131.
28. انظر الكامل في التاريخ: 7/274، وفيات الأعيان: 2/94، تاريخ الإسلام: حوادث ووفيات 251 ـ 260ه ، ص113، شذرات الذهب: 2/290.
29. كمال الدين وتمام النعمة: 40 ـ 43، وانظر الإرشاد: 321 ـ 324، إعلام الوري: 2/147 ـ 149، وبعضه في الفصول المهمّة: 2/1087 ـ 1088.
النهاية